اقرأ في هذا المقال
المواجهة بين موسى عليه السلام وفرعون الطاغية:
لما ذهب موسى وهارون الى فرعون وطلبا منههُ أن يُرسل معهما بني إسرائيل قال له فرعون: “قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ – وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ” الشعراء:18-19. أي أنّ الذي ربيتك وانت صغير، ورعيتك حتى صرت شابّاً قوياً.
فالعلماء يقولون: إن موسى عليه السلام ظلّ في بيت فرعون ولم يتركه، إلى في سنّ الثامن عشر، وفي سنّ الثلاثين، ففرعون رباهُ ولبثَ عنده سنين، وهنا فرعون يُذكره بالرجل الذي قتلهُ قبل أن يهرب إلى أرض مدين: “وأنتَ من الكافرين” إما من من الكافرين بألوهية فرعون، أو :الكافرينعمنا عليك؛ لأننا ربيناك وأكرمناك.
والعقلاء يقولون: إنّ الله تعالى حين يوفقك في تربية الأبناء، عليك أنّ تفهم أن هذه عنياةً من الله؛ وذلك بدليل أن الأب يكون واحداً، والأم واحدةً والبيئةُ واحدة والمنزلة واحدة، ويخرج الأخوان كلٌ منهما له سلوكٌ مختلف واتجاه معاكساً للآخر، فهذا دليل على أن هناك عنايةً إلهية أعلة من عناية الوالدين بأولادهما.
ما هي الأعمال التي فعلها فرعون من أجل موسى؟
وهنا فرعون يُعدد ما فعله من أجلِ موسى؛ فقد رباهُ صغيراً ولبث عندهُ سنيناً عدة، وهو هنا يسوق الادلة التي تكشف ادعائهُ الألوهية، فلو كان إلهً لعرف أنّ هذا الغلام الذي رباهُ في بيته وعطف عليه وأراد أن يتخذهُ ولداً؛ سيكون هلاكهُ على يديه، والفعل التي فعلها موسى عليه السلام هي قتل الإسرائيلي حينما حين ضربهُ بيده، فقضى عليه مع أنه لم يقصد قتله، فردّ عليه موسى ليُبرئ نفسه، فقال تعالى: “قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ – فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ” الشعراء:20-21.
أي أنني لا أنكر أنني قتلتُ، ولكن كنتُ جاهلاً بما سيترتبُ على هذه العملية، وما كنت أعتقد أبداً أن وكزةً كهذه ستميتُ احداً، فكلمةُ “الضالين” هنا ليس معناها إنه كان ضالاً عن الهدى؛ ولذلك يقول: “وَوَجَدَكَ ضالاً فهدى” الضحى:7. فهذا ليس معناه أن الرسول كان ضالاً عن الحق؛ لأنهُ لم يكن عندهُ منهج من الله تعالى، وتركهِ إلى غيره، لم يحدث هذا أبداً، فموسى فرّ من مصر خشية القتلِ، خاصةً بعد أن سمعَ عن تآمرِ القومِ عليه، كما في قول الله تعالى: “وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ” القصص:20.
ومعنى: “فَوَهَبَ ليّ حُكماً” أي حكمةً تجعلُ لي أضعُ الأشياء في مواضعها؛ لأنني خرجتُ مظلوماً ولم أقصد قتلَ الرجل، فأعطاني ربي من الحكمة؛ حتى لا أضعُ الشيء إلّا في محله، بعد ذلك يقول موسى عليه السلام لفرعون: “وتِلكَ نعمةً تَمُنها على عبدةِ بني إسرائيل” الشعراء:22. أي هل تمنُ عليّ بهذه الأشياء التي فعلتها معي من تربيةٍ ورعاية؟ هل هذه الحسنةُ تقارنها بما تفعلهُ مع بني إسرائيل، من ذبح الأطفال الذكور واستحياءِ النساء واستعباد الرجال، فهل هذا يُقارن بما تفعله في حق قومي؟ ومعنى “عَبّدتَ” أي جعلتهم عبيداً.
ثم يقول الله تعالى: “قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ” الشعراء:23. أي من ربّ العالمين الذي تتحدث عنه؟ فرّد موسى: “قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ” الشعراء:24. أي ربّ هو ربُ هذه السماوات وما فيها من شمسٍ وقمرٍ ونجومٍ وأبراج، وربِ هذه الارض بما فيها من زروعٍ وثمار وجبالٍ وبحارٍ وأنهار وحيوان، وهو الذي خلقها قبل أن توجد انت يا فرعون موسى، وردّ على فرعون بشيءٍ ثابت متحقق في الكون قبل وجوده، فما الذي زدتهُ أنت في الكون يا من تدعي الألوهية، ثم تلطفَ معهُ في الحوار فقال: “إنّ كُنتم موقنين” أي إنّ كنتم تضنون أن هذه الاشياء لم يخلقها أحد، فاستغرب فرعون هذا الكلام من موسى، فقال لمن حوله: “ألا تستمعون” فرعون قال ذلك؛ لأنه كان ينتظر من أتباعهِ بمجرد أن ينفي موسى عن الربوبية والألوهية، وينسبها إلى من خلقَ السماواتِ والأرض، أن يهبُ للردِ على موسى؛ لأنهُ حقرَ إلاههم، ونفى عنه ما يدعي، فقال له مستنكراً سكوته: “ألا تستمعُون” أي ما سمعتم ما قيل لي فلماذا تسكتون؟ وهم سكتو لأنهم يعلمون أنه كاذب في ادعائهِ الألوهية ويتمنون في قرارة أنفسهم أن ينصر الله موسى عليه السلام؛ حتى يتخلصوا من جبروتهِ وطغيانهِ.
ولكن موسى سارع في بسط حجته، قبل أن يتدخل أحدٌ من القوم في الحوار، ردّاً على سؤال فرعون: من ربّ العالمين، فقالَ “رَبُكم وربّ ءابائكم الأولين” الشعراء:26. أي من الذي كان إلهُ أبائك وأجدادك يا فرعون قبل أن توجد أنت. فحينما رأى فرعون أن موسى سيهزمهُ بالحجة والمنطق، أراد أنّ يخرج من هذا الجدل فاتهمهُ بالجنون، وهذا أيسر تهمةً للدعاة عند الحكام المستبدين، فقال تعالى: “قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ” الشعراء:27.
فهذا الأسلوب يفضحُ فرعون، فهو يعترف أن موسى رسولٌ مرسل، وما دام مرسلاً، فلا بدّ أنّ هناك من أرسله وهو الله، فكلامه شهادةً ضده مع أنه لم يستطع أن يرد على كلام موسى، فاتهمه بالجنون ولكن موسى لم يعبأ بقوله ومضى في عرض دعوته، فقال تعالى: “قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ” الشعراء:28. أي أن ربي هو ربّ المشرق والمغرب وما بينهما، إنّ كان عندكم عقل تقيسون به الأمور.
ولما ضاق فرعون به ذرغاً ولم يجد حجة يردّ بها عليه، هدّده بالسجن شأن كل حاكم طاغية ولا يتفاهم، ولا يقتنع بالحوار مع معارضيه. فقال تعالى: “قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ” الشعراء:29. وهذا إفلاس في الحجة، فكونك تقوى على الغالب وتأخذه من السجن، فأنت لم تقوّ على الحجة فلو كانت عندك حجة لقرعت الحجةَ بالحجة. وحين سأل فرعون موسى قائلاً:“فمن ربُكما يا موسى” قال له موسى: “رَبّنُا الذي أعطى كُلّ شيءٍ خلقهُ ثم هدى”. فهذا دليل البدء، وهذه هي المهمة الأساسيةُ؛ لأن فرعون الذي ادعى الألوهية، وأي إله لا بدّ أن يكون هناك مألوه له، والمألوه هنا خلق مثل فرعون، والذي يعتزّ به هو الملك والأرض، والنيل والخيرات؛ىحيث قال: “وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي” الزخرف:51. فالله تعالى يُردّ عليه ويُبين له أن هذه النعم التي ادعى بها الألوهية، ليس له صلةً بخلقها وإيجادها، كما أنه لم يخلق البشر الذي يريد أن يتأله عليهم فرّده الحق سبحانه إلى قضية الخلق الأولى. ولكن موسى أغلق أمامهُ هذا الباب وردّ عليه قائلاً: “عِلمُها عند ربّي” أي أن هذا الشيء علمهُ ليس عندي أنا، ولكن عند الله الخالق.