دلالة قصر النبي عليه الصلاة والسلام أثناء إقامته السفر:
لقد ذُكر أن القرآن قد دل على أن القصر لا يصح إلا ممن كان ضارباً في الأرض، وأن الضرب في الأرض هو السير فيها، وأن مفهوم الآية السابقة وجوب الإتمام لمن يكن ضارباً، وقد أكد هذا المفهوم بمنطوق قوله تعالى: “فإذا اطمأننتُم فأقيمُوا الصّلاة” إلا أنه جاء في السنة الفعلية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القصر أثناء إقامته في سفره.
ومن المقرر لدى علماء الأصول أنه لا عموم للأفعال إنما العموم للأقوال، ولذا فيجب معرفة إقامة النبي عليه الصلاة والسلام أثناء سفره، تحديد دلالتها بدقة، ثم الاقتصار على تلك الدلالة، في تخصيص مفهوم ومنطوق الآيتين. إذ لا يصح تعميم دلالتها على كل مسافر أقام في غير وطنه لتعدد الأغراض من إيقاف الضرب في الأرض، ولأنه لو قلنا بهذا لكان علة القصر هي مفارقة الوطن، وليس الضرب في الأرض، وهذا خلاف كتاب الله تعالى، وخلاف سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام وإليك البيان:
– عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: “أقام النبي عليه الصلاة والسلام تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا”. رواه البخاري.
– عن يحيى بن أبي إسحاق قال: سمعت أنساً يقول: خرجنا مع النبي عليه الصلاة والسلام من المدينة إلى مكة، فكان يُصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قلت: أقمتم بمكة شيئاً؟ أقمنا بها عشراً. متفق عليه. واحتج بحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة، فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الصبح في اليوم الثامن، ثم خرج إلى مِنى، وخرج من مكة متوجهاً إلى المدينة بعد أيام التشريق، ومعنى ذلك كله في الصحيحين وغيرهما.
– روى أن الإمام أحمد فقال: حدثنا عبد الرازق، حدثنا معمر عن يحيى ابن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر بن عبد الله، قال: أقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة. ورواه أبو داود من هذا الطريق، وقال: غير معمر لا يسنده، كما أن عبد الرازق ذكره في مصنفه من هذا الطريق، أيضاً ورواه ابن حبان في صحيحه من طريق عبد الرزاق. وقال ابن حزم: محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ثقة، وباقي رواه الخبر أشهر من أن يسأل عنهم.
قال البيهقي: غير محفوظ، وأعله بالإرسال والمخالفة. وقد أعلة الدار قطني بالإرسال الذي أشار إليه أبو داود. لكن النووي أجاب عن هذا فقال: قال بعضهم: رواية المُرسل أصح، قلت: ورواية المسند تفرد بها معمر بن راشد وهو إمام مجمعٌ على جلالتهِ، وباقي الإسناد صحيحٌ على شرط البخاري ومسلم، فالحديث صحيح؛ لأن الصحيح أنه إذا تعارض في الحديث إرسالٌ وإسنادُ حكم بالمسند.
وبعد هذا فإنه يظهر لمن تأمل إقامة النبي عليه الصلاة والسلام أن ثمت فرقاً كبيراً بين إقامتهِ عليه الصلاة والسلام بمكة عام الفتح وتبوك، وبين إقامتهِ بمكة عام حجة الوداع، ويظهر هذا من خلال الأمور التالية وهي:
- أن إقامة النبي عليه الصلاة والسلام عام الفتح وفي غزوة تبوك إقامة طارئة وغير مقصودة من قبل. بل اقتضتها مصالح الجهاد ومتطلبات الفتح، فهي إقامة غير معلومة البداية، وغير محددة النهاية؛ وذلك لأن هذا السفر من أجل الجهاد ومنازلة الأعداء والكرّ والفرّ، لا من أجلّ المكث والإقامة، ومن المعلوم أن من كانت هذه حاله فإنه لا يدري ما سيُواجهه من أوضاع، لذا فلا يصحُ أن يُقال بأنه قد بيت الإقامة أو أنه قد حدد موعد الرحيل، حتى تكون النهاية معلومة إذ لو فعله لنقل إلينا، وعدم نقله دليل على عدم فعله.
- إنّ إقامة النبي عليه الصلاة والسلام بمكة عام حجة الوداع تختلفُ عن إقامته صلى الله عليه وسلم عام الفتح، وفي غزوة تبوك لما علم من معرفة النبي عليه الصلاة والسلام بعدد الأيام التي يحتاجها من أراد الرحلة من المدينة إلى مكة المكرمة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قد طرقهُ قبل الهجرة وبعدها، كما أنه طريق قريش إلى رحلة الصيف، ثم إنه كان طريقاً آمناً عام حجة الوداع، كما أن اليوم الذي يبدأ به الحج معلوم لما عرف من أن مشروعية الحج كانت في السنة التاسعة، فمشروعيتهُ سابقة على حجة الوداع.
ولتلك الأسباب كلها فإن إقامتهُ عليه الصلاة والسلام بالأبطحِ قبل الحج إقامةً مقصودةً، وهي معلومة البداية والنهاية، ولا يصحُ أن يُقال بأنها حصلت كيفما اتفق لرسول الله عليه الصلاة والسلام كما في عام الفتح وغزوة تبوك لما علم من الاختلاف بين الرحلتين، لهذا فإن كبار علماء الأمة قد فرقوا في الاستنباط من الرحلتين، فاعتبروا القصر أثناء الإقامة في عام الفتح وغزوة تبوك بأنها دليلٌ على أنه يصح القصر لمن أقام إقامةً غير مقصودة، وإن طالت مدتها؛ لأن هذا هو عين دلالة فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام، وليس دليلاً على أن لكل من أقام أن يقصر للاختلاف بين الإقامات.
قصر النبي في حجة الوداع:
أما قصر النبي عليه الصلاة والسلام أثناء إقامتهُ عام حجة الوداع فكان دليلاً على جواز القصر لمن قصد إقامة أكثر منها؛ لأن هذه الإقامة كانت مراه بذاتها، ومقصوداً عدد أيامها، فدلالتها مقصورةً على جواز فعل ما وقع فيها فحسب، لأنها دلالة فعل فهي ليست عامةً بل خاصة لما تقرر من أنه لا عموم للأفعال.
كما أن الزيادة على ثلاثة أيامٍ لا تشملها دلالة قصر النبي عليه الصلاة والسلام عام الفتح وفي غزوة تبوك للاختلاف بين الإقامتين كما ذُكر، وبهذا صارت هذه الزيادة عارية عن الدليل الدال على جواز القصر فيها من السّنة الفعلية، فالواجب والحالة هذه أنّ تبقى ضمن حكم الإقامة العامة وهو وجوب الإتمام على كلّ مطمئن تاركٍ للضرب، لعدم روي المخصص.
خلاصة القول لهذا الأمر هو : أنه يظهرُ لنا مما ذكر بأن قصر الرسول عليه الصلاة والسلام أثناء إقامته وهو مسافر على نوعين وهما:
-الأول: قصرهُ لما أقام لم يُسافر من أجلها، بل اقتضتها متطلبات ما سافر من أجلهِ، ولذا فإنه يُشرع لمن كانت إقامتهُ مثل هذه وهي أن يقصر ولو طالت اقتداء برسول الله عليه الصلاة والسلام. أما من سافر ليُقيم، وطرأت له الإقامة وهو يعلمُ نهايتها، فإنهُ لا يصحُ له القصر إلا ما خصّ بثلاثة أيام لعدم مطالبة حاله لحال رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأن الأصل في المقيم أنه مُطمئن فيجب عليه الإتمام.
-الثاني:قصره لما أقم إقامة مقصودةً ومحدودة بمدةٍ معينة، فإنهُ يصح لمن أقام هذه المدة أن يقصر تأسيساً برسول الله عليه الصلاة والسلام ولا يصح القصر لمن أقام أكثر منها؛ لأن الأصل في المقيم أنه غير مسافر؛ ولأن القصر مرتبط بالسفر ولم يفعلهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما زاد على الأربعة حتى يكون مخصوصاً، فيجب الإبقاء على حكم الأصل، وإلا للزم منه نسخ الأصل بالمخصص، وهذا لا يصح.