استفسار الملائكة وسؤالها:
يحكي لنا القرآن القرآن عن استفسار الملائكة، فقال تعالى: “قالوا أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفكُ الدماء ونحن نُسبح بحمدك ونُقدسُلك”. البقرة:30.
إنّ الآية الكريمة تدل على أن الله جل وعلا جعل هذا الإنسان وهو آدم عليه الصلاة والسلام خليفة في الأرض عمن كان فيها من أهل الفساد وعدم الاستقامة، وقول الملائكة يدل على أنه كان هناك قومٌ يفسدون في الأرض، فبنت ما قالت على ما جرى في الأرض، أو لأسباب أخرى. فقالت ما قالت فأخبرهم الله سبحانه وتعالى بأنه يعلم ما لا تعلمه الملائكة، وأن هذا الخليفة يحكم الأرض بشرع الله ودين الله، وينشر الدعوة إلى توحيده، والإخلاص له، والإيمان به.
وهكذا ذريته بعده يكون فيهم الأنبياء، ويكون فيهم الرسل والأخيار والعلماء الصالحون والعباد المخلصون، إلى غير ذلك ممّا حصل في الأرض من العبادة لله وحده، وتحكيم شريعته، والأمر بما أمر به، والنهي عما نهى عنه.
فقد أراد الله تعالى تتويج آدم بتاج الخلافة على مملكة الأرض، فخاطب الملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة، فسألت الملائكة متأدبة ربها على وجه الاستكشاف والاستعلام عن وجه الحكمةِ من خلق الإنسان، ولم يكن سؤالهم على سبيل الاعتراض والانتقاص من بني آدم وحسداً لهم، فقد وصفهم رب العزة بأنهم عبادٌ مكرمون لا يسبقونه بالقول، فهذا ليس اعتراض، وكأنهم قالوا يا ربنا ما هي الحكمة التي من أجلها ستُخلق آدم وذريته من البشر مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فإن كان المراد من الخلق عبادتك يارب فنحن نعبدك ونسبح بحمدك ونقدس لك ونُطهرك من الشر، نقوم بطاعتك لا نعصي لك أمراً، نتمثل لعبادتك كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فلا يصدر منا إلا ما تحب وترضى، فهلا اقتصرت على خلقنا يارب إنّ كانت الحكمة من الخلق العبادة والتسبيح، فأجابهم الله إجابةً شافيةً لصدورهِم اطمأنوا بها واستسلموا لخالقهم عندما قال لهم إني أعلمُ ما لا تعلمون، فعلموا أنّ الله سبحانه عالم الغيب والشهادة، فقد خلق هذا الخلقِ لغايةٍ لا يعلمونها، فخضعوا مستسلمين لإرادة الله عزّ وجل قانعين بجواب الله لهم.
فالملائكة قالت ما قالت خوفاً من أن يكون قد وقع منهم تقصيراً أو مخالفة من أحدهم كانت سبباً لخلق خلقٍ جديد، فأسرعوا إلى تبرئة أنفسهم ونحن نُسبح بحمدك ونقدس لك قالوا ذلك رغبةً في إزالة شبهتهم، فسألوا الله عن الحكمة، فهم أسبق إلى الطاعة والتسبيح والتنزيه من هذا الذي سوف يملأ الأرض إن كان المراد من الخلق العبادة وكان هذا الإنسان بهذه المواصفات، ولكن ما إن جاءتهم الإجابة من الله حتى اطمأنت بها نفوسهم وثَلجت صدورهم وزالت شبهتهم، فهنا حكمة جليلة لا تعملونها ولا تُدركونها، فإني استخلفُ من أريد وسترونَ بعد قليل ما خفي عليكم واستتر من مميزات هذا المخلوق الذي سيكون خليفة في الأرض، فإني سأجعل منهم الأنبياء والرسل والصديقين والشهداء والصالحين والعُباد والزهاد والأولياء الصالحين الخاشعين، والعلماء الراسخين العاملين، وستعلمونُ نبأه بعد حين، إذن لم يكن سؤالهم هذا اعتراض أو مخالفة أو استنكاراً” ولم يُعدّ سؤالهم تجاوزاً؛ لأنه لم يُعاتبهم أو يعاقبهم عليها وإنما أخبرهم بقصور علمهم عن إدراك الحكمة في هذا الخلق.
كيف عرفت الملائكة بإفساد الخليفة؟
يُوحي قول الملائكة: “أتجعلُ فيِها مَن يُفسدُ فيها ويُسفكُ الدماء” البقرة:30. بأن قولهم هذا إنما جاء عن علم سابق، أو شواهد أو إلهام، فكيف عرفت الملائكة أن هذا الخليفة سيفسدُ في الأرض ويُسفكُ الدماء، أجاب العلماء على ذلك من عدة أمور وأهمها:
- ما رُوي عن ابن عباس أنه قال لما قال الله تعالى، إني جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا وما يكون من ذلك الخليفة قال: ذريتهُ يفسدون في الأرض ويَتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً فقالوا عند ذلك أتجعلُ فيها من يُفسد فيها.
- قيل إنهم قاسوا أحد الثقلين على الآخر بجامع اشتراكهما في عدم العصمة وأن الجن أفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء فقاسُوا الشاهد على الغائب.
- أنه لما أخبرهم بوجود الخليفة وأنه مخلوق من الطبائع الأربعة المختلفة حكموا بذلك.
- أن للملائكة علم الفراسة والنباهة فاستنبَطوا بفراسِتهم إفساده وسفك الدماء.
- وقيل عرفوا ذلك من اللوح المحفوظ وقيل أنه أطلعهم عليه الملكين هاروت وماروت عن ملك فوقهما يُقال له السجل.
- ويُحتمل أنهم علموا ذلك من تسميةخليفة؛ لأن الخلافة تقتضي الصلاح وقهر المستخلف عليه وهو يستلزم أن يصدر منه فساداً، إما في ذاته بمقتضى الشهوة أو غيره من السفك.
- وقال بعض المفسرين إنّ في الكلام حذفاً والتقدير إني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا وكذا فقالوا أتجعلُ فيها من يُفسد فيها. فجميع هذه الأوجه جائزة ومحتملة.