دعوة عيسى عليه السلام قومه إلى توحيد الله تعالى:
إن من أبرز موضوعات العقيدة التي جاء بها الأنبياء لدعوةِ أقوامهم، الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما في قوله تعالى:”وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ” النحل:36. وقوله تعالى:”وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ” الأنبياء:25.
وبهذا جاء عيسى عليه السلام يدعو قومه كما أخبر عنه المولى سبحانه بقوله:”لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۖ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۖ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ” المائدة:72.
وفي هذا الجانب أيضاً جاءت السنة تدل على دعوة عيسى عليه السلام، فعن الحارث الأشعري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:” إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل يعملون بهنّ، وإن عيسى ابن مريم قال له: إن الله أمرك بخمس كلمات تعمل بهن وتأمر بهن بني إسرائيل يعملون بهن، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم. قال: إنك إن تسبقني بهن خشيت أن أعذب، أو أو يُخسف. قال: فجمع الناس في بيت المقدس حتى امتلأ، وقعد الناس على الشرفات، قال: فوعظهم، قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن، أولاهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجلٍ اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق، قال هذه داري، وهذا عملي، فاعمل، وأدّ إليّ. فجعل يعمل ويؤدي إلى غير سيده. فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك، وإن الله خلقكم ورزقكم فلا تشركوا به شيئاً”. أخرجه الإمام أحمد.
وفي جانب العقيدة أيضاً جاء ببيان حقيقة نفسه رداً على من زعم له الإلهية، كما قال سبحانه تعالى:”وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ” المائدة:116.
وجاء بالرد عليهم في زعمهم أنه ابن الله، كما أخبر الله عنه بقوله سبحانه وتعالى:”وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ” التوبة:30. وكان ردّ عيسى عليه السلام لهذا الاعتقاد منهم بأول كلام تكلم به في المهد:”قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا” سورة مريم:30. فكان أول ما نطق به الاعتراف بعبوديته لله تعالى، وهذه حقيقته، وفيه رد على من غلا فيه، فقال: هو الله، أو هو ابن الله.
وجاء عليه السلام بالتبشير بالنبي الذي يأتي من بعده، كما في قوله سبحانه وتعالى:”وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ” الصف:6. والتبشيرُ به يتضمن الدعوة إلى الإيمان به وبما جاء به. فهي دعوة للنصارى الذين يدركون محمداً عليه الصلاة والسلام ليسلموا ولا يبقوا على نصرانيتِهم.
دعوة عيسى في الشريعة الأسلامية:
لقد جاء عيسى عليه السلام مقرراً لشريعة موسى في التوراة، مع ما جاءهُ في الإنجيل، كما قوله سبحانه وتعالى:”وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ” المائدة:46.
ومع إقراره ما جاء به موسى من قبل في التوراة، إلا أنه جاء بتخفيف شيء من ذلك، كما في قوله سبحانه:”وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ” آل عمران:70. يقول ابن كثير: فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة وهو الصحيح من القولين، ومن العلماء من قال: لم ينسخ منها شيئاً، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه خطأ.
وكان عيسى عليه السلام يدعو إلى الصلاة والصيام والصدقة والذكر ونحو ذلك من العبادات، ففي حديث الحارث الأشعري الذي مر طرف منه قال:” وأمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا. وأمركم بالصيام، وإن مثل ذلك كمثل رجلٍ كانت معه صرة فيها مسك ومعه عصابة كلهم يعجبه أن يجد ريحها، وإن الصيام أطيبُ عند الله من ريح المسك. وآمركم بالصدقة، وإن مثل ذلك كمثل رجل أسرة العدو وقاموا إليه فَأوثقوا يدهُ إلى عنقه، فقال: هل لكم أن أفدي نفسي منكم؟ قال: فجعل يعطيكم القليل والكثير ليفك نفسهم منهم. وآمركم بذكر الله كثيراً، وإن مثل ذلك كمثل رجلٍ طلبه العدو سراعا في إثرهِ حتى أتى على حصن حصين فأحرز نفسه فيه، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله”.