منزلة الخشوع في الصلاة:
الخشوع في الصلاة تأتي بمنزلة الروح من الجسد، فإذا فُقدت الروح مات الجسد، والخشوع هو بمثابة روح الصلاة، وجوفها.
قال الإمام ابن القيم رحمهُ الله: إنّ فواتُ الخشوع في الصلاة، وحضور القلب فيها بين يدي الله تعالى، الذي هو أساسُ روحها، ولُبّها، فصلاةُ بلا خشوعٍ ولا حضورٍ، مثلُ بدنٍ ميتٍ لا روح فيه، أفلا يستحي العبدُ أن يُهدي إلى مخلوقٍ مثله عبداً ميتاً، أو جارية ميّتَةً؟ فماذا يكونُ ظنُ هذا العبد أن تقع تلك الهداية ممن قصده بها: من ملكٍ، أو أميرٍ أو غيرهُ فهكذا، سواء الصلاة الخالية عن الخشوع، وجمع الهمة على الله تعالى فيها بمنزلة هذا العبد أو الأمة، أو الميت الذي يُريد إهداءهُ إلى بعض الملوك، ولهذا لا يقبلها الله تعالى منه، وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا ولا يثيبه عليها؛ فإنه ليس للعبد من صلاته إلى ما عقلَ منها.
رأي ابن تيمية في منزلة الخشوع في الصلاة:
لقد ذكر ابن القيم رحمهُ الله قول من قال: إذا غلبَ على المصلّي عدم الخشوع في الصلاة، وعدم تعقّلِها، فقد توجب عليه أنّ يُعيدها، واستدلوا بأنها صلاةٌ لا يُثاب عليها ولم يُضمن له فيها الفلاح، فلم تبرأ ذمتهُ منها؛ ولأن الخشوع والتعقلَ: روح الصلاة ومقصودها، ولبّها، فكيف يُعتدّ بصلاةٍ فقدت روحها ولبّها وبقيت صورتها وظاهرها؟ وقالوا: ولو ترك العبد واجباً من واجباتها عمداً؛ لأبطلها تركهُ وغايتهُ أنّ يكون بعضاً من أبعاضها وذلك بمنزلة فوات عضو من أعضاء العبد المعتق في الكفارة، فكيف إذا عدمت روحها، ولُبّها، وصارت بمنزلة العبد الميت، فإذا لم يعتدّ بالعبد المقطوع اليد يُعتثقهُ تقرباً لله تعالى في كفارة واجبة، فكيف يعتّد بالعبد الميت؟ وقد ذكر بأن حجج أصحاب هذا القول قويةً وظاهرة.
ما الرأي الذي رجحه ابن تيمية في منزلة الخشوع في الصلاة:
لقد رجّح ابن تيمية القول الثاني الذي لا يوجبُ الإعادة، وإنما يفُوت المصلّي غير الخاشع الثواب بقدرِ ما فاته من الخشوع في صلاتهِ، ويُفوتهُ ما يحصلُ من الدرجات العُلا في الآخرة، ومرافقتهِ المقرّبين، فكلُ هذا يفوته بفوات الحضور والخشوعِ، وذكر أن الرجلين ليكون مقامُهما في الصف واحداً، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، فإنّ أراد الإعادة لتحصل هذه الثمرات والفوائد فذاك إليه إن شاء أن يحصّلها، وإن شاء أن يفوّتها على نفسه فوّتها ولا نلزمهُ بإعادتها ولا نعاقبه على تركها، ولا نرتب عليه أحكام تارك الصلاة، وهذا أرجح القولين.
فكلامُ ابن القيم رحمهُ الله هنا اختصّ بحضور القلب وخشوعهِ في الصلاة، أما من نقر الصلاة، ولم يتم ركوعها، أو سجودها، أو ترك شيئاً من شروطها، أو أركانها، أو تعمد أن يترك واجباً من واجباتها، فلا شك بأن الإعادة توجبت عليه. وممّا يدلُ على عِظم منزلة الخشوع في الصلاة: أن الله تعالى يُعرضُ عن من التفت بقلبهِ أو ببصرهِ؛ لحديث أبي ذر رضي الله عنه، يرفعهُ إلى النبي عليه الصلاة والسلام: لا يزالُ الله تعالى مُقبلاً على العبد في صلاتهِ ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه.
رأي ابن القيم في الالتفات في الصلاة:
قال الإمام ابن القيم رحمهُ الله: الالتفات المنهي عنهُ في الصلاة قسمان:
الأولى: التفاتُ القلب عن الله عزوجل إلى غيره تبارك وتعالى.
الثانيه: التفاتُ البصر، فالتفات البصر والقلبِ كلاهما منهيٌ عنه، ولا يزالُ الله يتقربُ من عبده ما دام أن العبد مقبلاً ومُدبراًعلى صلاتهِ، فإن التفت بقلبهِ أو بصرهِ فقد أعرضَ الله تعالى عنه، ومثلُ من يُلتفت في صلاتهِ ببصرهِ أو بقلبهِ، كمثل رجلٍ قد استدعاهُ السلطان، فأوقفهُ بين يديهِ، وأقبل يُناديه ويخاطبهُ، فمن خلال ذلك فإنهُ يلتفتُ عن السلطان يميناً وشمالاً، فقد انصرف قلبهُ عن السلطان، فلا يفهم ما يخاطبهُ به؛ لأن قلبهُ ليس حاضراً معهُ، فما هو ظنّ هذا الرجل أن يفعل به السلطان، أليس أقلّ المراتب في حقهِ بأن ينصرف من بين يديه ممقوتاً مبعداً، قد سقط من عينيه.
فالمُصلي لا يستوي الحاضر القلب المقبل على الله تعالى في صلاتهِ الذي قد أشعرَ قلبهُ عظمةً من هو واقفٌ بين يدي خالقه فقد امتلأ قلبهُ من هيبتهِ، وذلّ عُنقهُ له، واستحيى من ربهِ تعالى أن يُقبل على غيرهِ، أو يلتفتُ عنهُ وبين صلاتيهما كما قال حسان بن عطية: إنّ الرجلين ليكونانِ في الصلاة الواحدةِ، وإنّ ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض؛ ولذلك لأنّ أحدهما مقبلٌ بقلبهِ على الله تعالى والآخرُ ساهٍ غافل، فإذا أقبلَ العبدُ على مخلوقٍ مثله وبينه وبين حجابٍ لم يكن إقبالاً ولا تقرباً، فما الظن بالخالق تعالى، وإذا أقبلَ على الخالق وبينهُ وبينه حجابٌ الشهوات والوساوس والنفس مشغوفةً بها، وملأى منها، فكيف يكون ذلك إقبالاً وقد ألهتهُ الوساوس، والأفكار، وذهبت به كل مذهب.