منزلة موسى عليه السلام عند ربه:
قال الله تعالى: “قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ” الأعراف:144. كأن الله تعالى يريد أن يلفتنا إلى عطاءاته وفُيوضاتهِ وهي كثيرة أجلّ من أن تحصى، وهو سبحانه يذكرهُ بها في هذا المقام، فالله قد اصطفاه أي اختاره وميّزه على الناس، وهذه دقة الأداء، فلو أنّ الله سبحانه وتعالى: “اصطفيك” ولم يقل “على الناس” لكان معنى هذا هو الاصطفاء المطلق على كل خلق الله حتى الملائكة المقربين، ولكن الحق سبحانه وتعالى يُفهمنا أنّ عذا الاختيار والتفضيل، هو في دائرة البشر، ولكن الله تعالى اصطفى من الرسل غير موسى، فلذلك نقول: هناك فرق بين اصطفاء أو تفضيل برسالة منفردة، وبين تفضيل برسالة ومعها شيء زائد، والرسل اصطفاهم الله سبحانه وتعالى بالرسالات، ولكن موسى عليه السلام اصطفاه الله بالرسالة والكلام.
وقال الله تعالى: “وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ ۚ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا” مريم:51. ومعنى مُخلصاً بكسر اللام أي خلص الغرائز المخلوقة لمهمة، مما يُصيبها من شوائب تؤدي إلى الإنحراف بها عن هذه المهمة، وأما المخلص، بفتح اللام، فهو الذي بدأه الله مخلصاً من ذلك، دون أن يدخل في تجربةٍ، وهؤلاء هم الذين يرسلهم الله ليكونوا أسوةً سلوكية، فبدلاً من أن يُخلصوا أنفسهم، يخلقهم الله مخلصين فالمخلص خلصهُ الله من شوائب الغرائز والمخيلص، بكسر اللام، أي خلّص نفسه من شوائبِ الغرائز ويكون ذلك بالتربية واستعمال منهج الحق سبحانه تعالى.
ثم يقول الله تعالى: “وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا” مريم:52. وكلمة “وقربناهُ نجيا” والنجيّ: هو المناجي الذي يحدثك عن قرب، مع أن الله تعالى كلمة كلاماً سمعهُ موسى، فمعنى “نجينا” أي كلاماً لا يسمعهُ سواه؛ لأن كلام الله خصوصية له فلا يسمعه غيره صار كأنه مناجاة، وهذه عظمة القدرة وطلاقتها تعطي الكلام والمناجاة في وقت واحد.
وقال سبحانه وتعالى :”قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ” والسؤل هو الشيء المسئول ،المعنى: قد أوتيت مسئولك يا موسى ،فالذي سألته أعطيناك ومعنى:“مننا عليك”اي أعطيناك قبل أن تسأل، فنحن لم نتنظر حتلى تسأل، ولكننا أعطيناك قبل السؤال، ولذلك الحق سبحانه وتعالى يقول: “وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ“اي من كل الذي سألتم، وهناك قراءة أخرى تقول: “وآتاكم من كلّ” بتشديد اللام والتنوين “ماسألتموه” أي: أتاكم حتى قبل أن تسألوا؛ لأنه سبحانه وتعالى أعطاك قبل أن تعرف، تتكلم وتسأل ؛ومعنى “مرة اخرى” أي: مرة ثانية، فهذا اسمه ترتيب ذكرى وان كانت هذه متأخرة عن تلك. وكلمةُ مننّا المنّة: أي تعني عطاءً بلا مقابل، فالجزاءُ على العمل في الآخرة يكون بعمل؛ لأنك عملتَ عملاً تجازى عليه، ولكن المنّة أن يعطيك الله شيئاً بغير عمل فالمنّة بلا مقابل، وذكر وقت هذه المنّة فقال تعالى: “إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى” فالمنة الأولى حديث وقت أن أوحينا الى أمك ما يوحى، فأنت يا موسى ولدت في عام كان فيه فرعون يقتل اولاد بني اسرائيل، فمننا عليك بأن أوحينا الى أمك أنها إذا خافت عليك تلقيك في اليمّ، وأننا سنحفظك ونردك اليها ونجعلك من المرسلين.
ويقول الله تعالى: “وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي” ولذلك لما رآه فرعون ورأه امرأته وقع في قلبيهما حبه، فهناك محبةٌ للأسباب الله ومحبةٌ بدون اسباب، ولكن الله أرادها، وقوله تعالى: “وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي” فذلك يعني أن الذي سيريه فرعون ولكنه يريه على عين الله تعالى، فإن تعرض لشيء في تربيته يتدخلُ الحق سبحانه لإصلاحه.
ماذا سأل موسى عليه السلام ربه:
سألَ موسى عليه السَّلامُ ربَّه: ما أدْنى، أي: أقلُّ أهلِ الجنَّةِ منزلةً؟ قال: هو رجلٌ يجيءُ بعدما أُدخِلَ أهلُ الجنَّةِ، فيقالُ له: ادخُلِ الجنَّةَ، فيقولُ: أيْ ربِّ، كيف، أي: دُخولي فيها وقد نزَل النَّاسُ منازلَهم؟ أي: فيها وما أبقَوْا لغيرِهم منزلًا، وأخَذوا “أَخَذَاتِهم”، أي: سلَكوا طُرقَهم، أو حصَّلوا كراماتِهم، فيقالُ له: أتَرضَى أنْ يكونَ لك مِثلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِن ملوكِ الدُّنيا؟ فيقولُ: رضِيتُ رب؛ مسارعةً لذِكرِ الرَّب، فيقولُ: لك ذلك ومِثلُه ومِثله ومِثله ومِثله، أي: مُنضمًّا لِمَا رَضيتَ به زيادةً عليه، مبالغةً في التَّفضيلِ، فيقول في الخامسةِ: رضيتُ ربِّ، فيقولُ: هذا لك وعشَرةُ أمثالِه، ولك ما اشتهَتْ نفسُك، ولذَّتْ عينُك، وهذا شاملٌ لكلِّ أحدٍ مِن أهلِ الجنَّةِ، فيقولُ: رضِيتُ ربِّ، قال موسى: ربِّ، فأعلاهم منزلةً، قال اللهُ تعالى: فأولئك الَّذين أردتُ، غرَسْتُ كرامتَهم بيدي، وختَمْتُ عليها؛ فلم تَرَ عينٌ، ولم تسمَعْ أُذُنٌ، ولم يخطُرْ على قلبِ بشَرٍ، أي: ما أعدَدْتُ لهم مِن الكرامةِ؛ لعدمِ وجودِ شيءٍ ممَّا ذُكِر لأحدٍ منهم، ومصداقُه في كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ: “فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ” السجدة: 17.