اقرأ في هذا المقال
معجزة كلام عيسى عليه السلام في المهد:
يقول الله تعالى: “وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ” آل عمران:46. إن هذا الكلام معناه: إن اللفظ الذي ينقل قول الناطق إلى السامع، وقول الحق: “ويُكَلِمُ الناسَ في المهدِ”، ومعناه: هو أن المواجَه بكلام عيسى عليه السلام في المهد عند الناس، ونفهم من قوله تعالى: “ويُكَلِمُ الناسَ في المهدِ” وسرّ وجود آية معجزة وهبها الله تعالى لعيسى عليه السلام، وهو أن يكلم الناس وهو طفلٌ في المهد؛ لأن المسألة تعلقت بعرض أمّهِ وبكرامتها وعتقها، فكان لا بدّ من آية لتمحو عجب الناس حين يرونها، وقد ولدت بدون زوج، وهذه المسألة لم نجد لها وجوداً في الأناجيل الموجودة بأيدي النصارى، مع أنها مسألة كانت يجب أن تذكر من كتبة الإنجيل؛ لأنهم يُمجدون نبيهم، وكان من الواجب ألا يغفلوا هن هذا الشيء العجيب.
لذلك أن كلام طفلٍ في المهد أمرٌ عجيب وكان لا بدّ أن يكون محلَ حفظٍ وتداول بين الناس، وإن الطفل عندما يتكلمُ في المهد فلن يقوم الناس بروايةٍ واقعةٍ كلامه في المهد فقط بل سيحفظون ما قالهُ ويرددون قوله؛ لأن العجيب أن يتكلم وهو في المهد، ويحرص الناس على أن يعرفوا ماذا قال: والكلمة التي قالها عيسى عليه السلام في المهد لا تسعف زاعمي التبعية لعيسى عليه السلام، فيما يدعون؛ لأن الكلمة الوحيدة التي نطق بها أول ما نطق قال: “إنّي عبدُ الله” فأخفوا هذه المسألة كلها رغم أن كلام طفل في المهد يكون أمراً عجيباً، وما دام أمراً عجيباً ولا فتاً للأذهان، فلا بدّ أن يكونوا قد سمعوا ما قاله ووعوه، وما دام قد سمعهُ القوم ووعوه فلا بد أنهم تناقلوه ما قاله، وهو قد قال في أول ما نطق: “إنّي عبدُ الله” وهنا وبهذه الكلمة ينتفي ادعاء ألوهية عيسى عليه السلام.
إن الله تعالى يقول: “وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً” فنحن نعرف أن الكلام في المهد أي وهو طفلٌ، وكهلاً أي بعد الثلاثين من العمر، أي في العقد الرابع، والبعض قد قال: إنّ الكهولة بعد الأربعين من العمر، وقد حدثت له في رواياتهم ما أسموه حكايةً الصلب قبل أن يكون كهلاً، فإذا كان قد تكلم في المهد فينبغي أن يتكلم وهو كهل، ولما كانت حادثة الصلب أو عدم الصلب أو الأختفاء عن حس البشر لكي يسمونها كيف شاءوا المهم أنها تمت قبل أن يكون كهلاً.
فلا بدّ أن يأتي وقتٌ يتكلمُ فيه عيسى ابن مريم عندما يصير كهلاً، وأيضاً قول الحق سبحانه: “وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً” إلا أنه كان في المهد طفلاً وكهلاً تأتي بمعنى ناضجُ التكوين، وبذلك نعرف أن عيسى ابن مريم فيه أغيار وفيه أحوال، فإذا كنتم تقولون: إنه إله فهل الألوهية وهو في المهد هي نفسها الألوهية وهو في الكهولة.
لو كانت الألوهية في المهد فهي ناقصة؛ لأنه لم يستمر في المهد، وحدثت له أغيار، وما دام قد حدثت له أغيار فهو محدث، وما دام محدثاً فلا يكون إلهاً. وبعد ذلك يقول الله تعالى في عيسى ابن مريم:“من الصالحين” وتعني عملهُ أي الحركة السلوكيةِ، لأنه لا يكفي أن يكون مبلغاً ولا يكفي أن يكون حامل آية بل لا بدّ أن يكون على السلوك الإيماني.
افتراء اليهود في ادعاءاتهم على مريم عليها السلام:
لقد قال تعالى: “وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا” النساء:156. أي ان الله قد أخذهم بذنوبهم بداية من نقضهم الميثاق، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وادعائهم أن قلوبهم “غُلّفٌ” النساء:155. لا يدخلها الإيمان ولا يخرج منها الضلال، ثم كفرهم وقولهم على مريم البُهتان العظيم؛ فكأن قول البهتان على مريم لم ينشأ إلا من منطلق الكفر.
وقول الله تعالى: “وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا” فإن ما قالوه عن أم عيسى الصديقة مريم، وهم بقولهم البهتان يناقضون أفهامهم، ويناقضون عقولهم، ويناقضون واقعاً شاهدوه، وقد كانت مسألة ميلاد عيسى عليه السلام من “أمٍ” دون “أب” شيئاً معجزاً يُناقض ناموس الكون في أن كل تكاثر إنساني ينشأ من لقاء رجلٍ بامرأة، أو ذكراً بأنثى. ولكن الحق تعالى شاء أن يرد على ما دية اليهود الذين أرادوا أنّ يروا الله جهرةً ولم يؤمنوا به غيباً مطلقاً وظن اليهود بسخافة عقولهم أن الله إنّ رأى بأعينهم جهرةً كان إلهاً يستحق أن يُعبد، وما علموا أنه لو كان مرئيّاً جهرةً لخلقهِ لما استحق أن يُعبد؛ لأن المرئي تقدر عليه عين الرائي لتميزهُ فيُصبح المرئي مقدوراً عليه، فالله تعالى: “لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ” الأنعام:103.