موضع الأذان والإقامة:
يكون موضع الأذان والإقامة من مكانٍ يُسمى المئذنة: وهي تسمى“المنارة” لم تكن معروفة في عصر النبوة ولا عصر الأئمة الخلفاء الأربعة، فيما أعلم، على طبيعتها المعروفة في العصور المتأخرة، لكن أفاد البلاذري في فتوح البلدان أن أول مئذنة بُنيت في الإسلام كانت على يد زياد بن أبيه عامل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في مدينة البصرة عام 45 للهجرة.
لقد أفاد المقريزي بأن أول مآذن في الإسلام هي صوامع جامع عمر بن العاص رضي الله عنه الأربع التي بناها مُسلمة بن مخلد والي مصر في زمن حكم الأمويين في عام 53 للهجرة.
والمساجد ليس لها صفةً معينة في البناء والهيئة والشكل، وليس وجود المنارة شرطاً، واستحبّ وجودها بعضهم؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، ومن مقاصد المنارات هي إيصالُ الصوت للبعيد مع كثافة الناس وطول البنيان، وكذلك إرشادهم إلى معرفة المسجد من غيره مع تداخل البناء وتطاول الناس فيه.
ولما كانت الحكمة من مشروعية الأذان الإعلام بدخول الوقت، ويُستحبُ اختيار نديّ الصوت من المؤذنين، وجاء في السنة ركوب المؤذنين على السطوح للأذان لإبلاغ الناس الأذان، كان للوسائل في هذا حكم المقاصد، فهي ممّا يحصل فيها منفعة عُلّو الصوت وارتفاعه، وقد عمل بذلك جماعة من السلف؛ من ذلك ما رواه ابن شيبة، بسندٍ صحيح عن عبد الله بن شقيق، قال: “من السنة الأذان في المنارة والإقامة في المسجد وكان ابن مسعود يفعله”.
وما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة، قال: كان قيام النبي عليه الصلاة والسلام قدر ما ينزل المؤذن من المنارة ويصلُ إلى الصف. وقد ترجم غير واحد من الأئمة على ذلك، مثل ابن أبي شيبة وهو أن المؤذن يؤذن على المواضع المرتفعة المنارة وغيرها، وقول أبي داود: “باب الأذان فوق المنارة” وقول البيهقي: “الأذان في المنارة”. أما في صحيح مسلم في حديث النوّاس بن سمعان في قصة نزول المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق.
موضع الأذان:
لقد اتفق العلماء على استحباب أن يكون الأذان من فوق مكان مرتفع، كسطح المسجد وغير ذلك قبل معرفة أجهزة تكبير الصوت، وعليه عمل الصحابة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث عروة بن الزبير عن امرأة من بني النجّار، قالت: “كان بيتي من أطول بيتٍ حول المسجد، فكان بلالٌ يؤذنُ عليه الفجر” رواه أبو داود وغيرهم.
وفي بعض ألفاظ حديث ابن أبي ليلى عن معاذ في قصة عبد الله بن زيد عند أبي داود والترمذي، وصححه ابن خزيمة، قال: “رأيتُ في المنام كأن رجُلاً قام وعليه بُردان أخضران على جذم حائط فأذن” رواه أبو داود. وفي رواية عند أبي في سننه، “فقام على المسجد فأذن”. وجاء في “الصحيح” من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: “إنّ بلالاً يؤذن بليلٍ، فكلوا واشربوا حتى يؤذّن ابنُ أمّ مكتوم” وقال: “ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقي هذا” رواه البخاري. وقد جاء ذكر المنارة في السنة، لكنه لا يثبت؛ فقد روى البيهقي وأبو الشيخ عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، قال: “من السنة الأذان في المنارة، والإقامة في المسجد”. وهذا حديث منكر، لم يروه غيرُ خالد بن عمرو، وهو ضعيف منكر الحديث.
والصواب أنه من قول عبد الله بن شقيق كما عند ابن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن الجُريري عنه به، وهو صحيح. لكن العلذة في الأذان في مكان مرتفع هو بلوغ الصوت وإعلامهم بالصلاة، فإن حصل هذا بلا ارتفاع، كالأذان عبر المكبرات، فلا يُقال بسنّية الارتفاع. وقد سئل أحمد عن الأذان الذي يوجب على من كان خارجاً من المصر أن يشهد الجمعة هو الأذان الذي على المنارة أو الأذان بين يدي المنبر؟ قال: هو الذي في المنارة.
موضع الإقامة:
إن الأمر فيه واسع، وقد قال جمهور الفقهاء باستحباب التحوّل من موضع الأذان إلى آخر للإقامة؛ وذلك لما رواه أهل السنن من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه في صفة الأذان، قال: “ثم استأخر عني غير بعيد، قال: ثم تقول إذا أقممت الصلاة: الله أكبر، الله أكبر” رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه. وإن أقام في موضع غير موضع الصلاة على عُلّو، فلا حرج، وذلك لما رُوي عن بلالُ رضي عنه أنه قال: “يا رسول الله، لا تَسبقني بآمين” رواه أحمد. يعني أنه كان في موضع غير موضع الصلاة.
فالصحابةُ كانوا إذا سمعوا الإقامة توجهوا للمسجد للصلاة وفيه إشارة إلى بُعد موضع الإقامة عن موضع الصلاة؛ فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: “إذا سمعنا الإقامة توضأنا، ثم خرجنا إلى الصلاة”. رواه أحمد وأبو داود.