اقرأ في هذا المقال
التعريف بسورة يوسف عليه السلام:
لقد سُمِّيت سورة يوسف بهذا الاسم نسبةً إلى نبي الله يوسف عليه السلام؛ لأنَّها تحدثت عن قصة نبي الله يوسف بشكل مُفصل ولم تُذكر في القرآن الكريم قصة أي نبيٍّ كما ذُكرتْ قصة نبي الله يوسف عليه السَّلام في سورة يوسف من حيث الإطناب والشرح والتفصيل. تُعدُّ سورة يوسف عليه السلام من السور المكية؛ فقد أجمع أهل العلم على أنَّها نزلتْ على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مكة المكرمة قبل الهجرة، وقد نزلتْ سورة يوسف بعد سورة هود وقبل سورة الحجر.
الشاهد الذي شهد على براءة يوسف عليه السلام:
لقد تجاوز السياق القرآني رد الزوج على الخيانة التي أعدتها امرأة العزيز للنبي يوسف عليه السلام، لكنه بينَ كيفية تبرأة يوسف عليه السلام من هذه التهمة الباطلة، فقال تعالى: “قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ۚ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ–وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ– فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ” يوسف:26-28.
فلا نعلم إن كان الشاهدُ مرافقاً للزوج منذ البداية، أم أن العزيز استدعاه بعد الحادثة ليأخذ برأيه كما بينت بعض الروايات بأن هذا الشاهد هو رجلٌ كبير، بينما أخبرت روايات أخرى أنه طفلٌ رضيع كما أنه جائز، فهذا لا يُغير من الأمرِ شيئاً، إن ما يذكرهُ القرآن الكريم أن الشاهد أمرهم بالنضر للقميص، فإن كان قميصهُ ممزقاً من الأمام فذلك من أثر مدافعتها له وهو يُلريد الاعتداء عليها، ففي تلك الحالة تكون هي الصادقة وهو الكاذب، وإن كان قميصهُ ممزعٌ من الخلف فهو إذن من أثر تملصهِ ومنها وتعقبها هيَ له حتى الباب فهنا يكون هو من الصادقين وهي من الكاذبين. فقال تعالى: “فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ” يوسف:28.
وهنا تأكد الزوج من خيانة زوجتهِ له وهي عندما رأى قميص يوسف ممزقٌ من الخلف، لكن الدم لم يثر في عروقهِ ولم يصرخ ولم يغضب ولم يُحرك ساكناً، فقد فرضت عليه قيم وعادات الطبقة الراقية التي وقع فيها الحادث أن يُواجه ُ إلى كيد النساء عموماً، وأكدّ بأن كيد النساء عمومٌ عظيم، وهكذا سيق كما لو كان ثناءً يُساق، ولا نحسب أنه يسوء المرأة أن يُقال لها: “إن كيدهن عظيم” فهو دلالة على أنها كاملة مستوفيه لمقدرة الأنثى على الكيد، بعدها التفت الزوج إلى يوسف قائلاً له “يوسف أعرض عن هذا” فقد أهمل هذا الموضوع ولا تعره اهتماماً ولا تتحدث به، وهذا هو المهم وهو المحافظة على الظواهر، ثم يوجه عظة مختصرة للمرأة التي ضُبطت متلبسةً بمراودةِ فتاها عن نفسها ومزق قميصه فقال تعالى: “واستغفري لذنبك إنّك كُنت من الخاطئين”.
لقد انتهت قصة يوسف مع امرأة العزيز في المراودة، لكن الفتنةُ لم تنتهِ بعد، فلم يفصل سيد البيت بين المرأة وفتاها، فكلُ ما طُلب منه هو إغلاق الحديث هذا الموضوع، غير أن هذا الموضع بالذات، وهذا الأمر يصعبُ تحقيقه في قصر يمتلئ بالخدم والمستشارين والوصيفات.
قصة يوسف مع نسوة المدينة:
لقد انتشرت قصةُ امرأة العزيز وخرجت من قصرها إلى قصور الطبقات الراقية، وأخذنّ نسوة القصور يتحدثن في أمرِ امرأة العزيز وما فعلته مع يوسف عليه السلام، فقال تعالى: “وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ” يوسف:30.وظل الخبرُ ينتقل من بيتٍ إلى بيت ومن فمٍ إلى فم حتى وصل لامرأة العزيز، وقال تعالى: “فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ۖ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ – قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ” يوسف:31-32.
لقد قررت امرأةُ العزيز أن تَعدّ مأدبةً كبيرةً في قصرها، وأعدت الوسائد من أجل أن يتكئن عليها المدعوات، واختارت الأصناف الكثيرة من الطعام والشراب ومن جميع الأشكال، وأمرت بأن توضع السكاكينُ الحادة إلى جانب كل مأدبة وقامت بدعوةِ كلّ امرأة تحدثت عنها، وبينما هنّ منشغلات بتقطيع اللحم أو الفاكهةِ، أمرت بأن يخرج عليهن يوسف عليه السلام، “فلما رأينهُ أكبرنّ” لقد بُهتن لطلعتهِ ودُهشنّ “وقطعنّ أيديهنّ” لقد جرحن أيديهن بالسكاكين من شدّة الدهشة المفاجئةِ بيوسف عليه السلام، “وقلنّ حاشا لله” وهي كلمةُ تنزيهٍ تُقال في هذا الموضع تعبيراً عن الدهشة بصنع الله، “ما هذا بشراً إنّ هذا إلّا ملكٌ كريم” يتضحُ لنا بأن شيئاً من ديانات التوحيد قد تسربت لأهل ذلك الزمان.
لقد رأت امرأة العزيز أنها انتصرت على نساء طبقاتها، وأنهنّ لقين من طلعة يوسف الدهش والإعجاب والذهول، فقالت قولةً المرأة المنتصرة التي لا تستحي أمام النساء من بنات جنسها وطبقتها والتي تفتخر عليهنّ بأن هذا متناول يدها، وإن كان قد استعصم في المرة الأولى، فهي ستحاول المرة تلو الأخرى؛ لأجل أن يلين.
لقد اندفعن جميع النسوة بمراودة يوسف عن نفسه، فكلّ واحدةٍ كان تريدهُ لنفسها، فإن هذه الأفعال كلها كانت تدل على أمران:
الأول: وهو حينما قال يوسف عليه السلام، قال تعالى: “قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ” فلم يقل ما تدعوني إليه.
أما الأمر الثاني: وهو سؤال الملك لهم فيما بعد، وهو قوله تعالى: “قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ۚ“يوسف:51.
إنّ أمام هذه الدعوات فقد استنجد يوسف بربه بالقول والحركات والسكنات من أجل أن يصرف عنه محاولاتهنّ لإيقاعه في حبائل الحرام والمعصية؛ وذلك خيفة أن يضعف في لحظةٍ أمام الإغراء الدائم، فيقع فيما يخشاهُ على نفسه. فقد دعى يوسف عليه السلام بدعاء الإنسان العارف ببشريته الذي لا يغتر بعصمتهِ فيُريدُ مزيداً من عناية الله وحياطتهِ، ويُعاونه على ما يعترضهُ من فتنةِ كيد وإغراء، فنادى ربه قائلاً: “قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ” واستجاب له الله وصرفَ عنه كيد النسوة. وهذا الصرف قد يكون بإدخال اليأس في نفوسهنّ من استجابتهُ لهنّ بعد هذه التجربة، أو بزيادة انصرافه عن الإغراء حتى ما يحس في نفسه أثراً منه، أو بهما جميعاً. وهكذا اجتاز يوسف المحنة الثانية بلطف الله ورعايته، فهو الذي سمع الكيد ويسمعُ الدعاء، ويعلمُ ما وراء الكيد وما وراء الدعاء.