أثر الخطبة المحرمة في العقد

اقرأ في هذا المقال


أثر الخِطبة المحرمة في العقد:

إذا خطبَ إنسان امرأةً خِطبةً محرّمة، ثم بنى على هذه الخِطبة عقدُ زواجٍ مكتمل لكل شروطه، مثل أنّ يخطبها على خطبة غيره ثم يعقد عليها زواجه، أو أنّ يخطب معتدة غيره ثم يتزوجها بعقد مستكمل الشروط بعد انقضاء عدتها، أو أن يخطب مسلم مجوسية ثم يتزوجها بعد إسلامها أو دخولها في النصرانية، فهل يُعد العقد في هذه الأحول صحيحاً لاستكمال شروطه كلها؟ أم يعد غير صحيح لبنائه على خطبة  محرَّمة.

اتفق الفقهاء على صحة عقد الزواج إذا بُنيَ على خِطبة صحيحة، كأن يخطبها خطبةً محرمة ثم زال سبب التحريم ثم عاد إلى خطبتها ثم الزواج منها، كما اتفقوا على صحة الزواج بدون خِطبة أصلاً، لأنه لم يقل أحدٌ بوجوب الخطبة ولا يُعدِّها شرطاً في الزواج.

ولكن إن خطبها خطبة محرّمة، ثم بنى على هذه الخطبة عقدُ زواجٍ مستكملاً لشروطه، فقد ذهب الجمهور إلى
صحة هذا العقد، لأن الخِطبة ليست شرطاً فيه مطلقاً، فالعقد يصحّ بدون خطبة، أصلاً بالإجماع، فكذلك مع الخطبة
غير الصحيحة، وإن كان في ذلك إثم ديانة، إلا أن هذا الإثم لا يؤثّر في صحة العقد.

وذهب داود الظاهري إلى أن العقد باطل، لأنه مبني على خِطبة محرمة باطلة، وما بُني على الباطل فهو باطل عنده.
أما المالكية فله فيتلك المسألة ثلاثة أقوال:

الأول: مع الظاهرية، فيكون العقد باطلاً.
الثاني: مع الجمهور، فيكون العقد صحيحاً.

الثالث: إن العقد يفسخ قبل الدخول، ولا يفسخ بعده، وهو الأقوى عندهم، إلا أنهم اختلفوا في الفسخ، هل هو واجب أو مندوب، والأقوى الندب، وهذا ما لم يقض بصحته قاضٍ، فإذا قضى بصحة النكاح قاضٍ لم يفسخ مطلقاً، وكذلك إذا سامحه الخاطب الأول، فإنه لا يفسخ.

حكم نظر الخاطب إلى المخطوبة، وشروطه وحدوده:

حكمها:

من معاني الخطبة وحِكَمِها كشف كل من الخطيبين لحال الآخر قبل الإرتباط بعقد الزواج، وليكون ذلك أبقى للحياة الزوجية وأدوم لها، فكشفُ الحال هذا يقتضي به التعرّف به كل منهما على الآخر خَلقياً وخُلقياً. أما التعرّف على الأخلاق فيكون بسؤال الأصدقاء والجيران، والتعرّف على القرناء والبيئة التي يعيشُ فيها، وعلى الأهل الذين هو منهم فإن الإنسان ابن بيئته وقرين قرنائه، وقد قال الشاعر في ذلك: 

عن المرء لا تسل وسل عن قرينه         فكل قرين بالمقارن يقتدي.

وأما التعرّف على الصفات الخَلقية، فهذا بعضه يُعرف بالسؤال وإرسال المحارم، كالنحافة، ولون البشرة، ولون العينين، وبعضه لا يُعرف إلا بالنظر الذاتي، كما قيل: “فما راء كمن سمع” كتبيُّن مدى تقبله له وانجذابه  نحوه،
فربما رضي الإنسان المرأة غير الجميلة وأساغها وفضلها على الجميلة، بل ربما رآها أجمل منها في نفسه، وربما حصل ذلك للمرأة إذا رأت الرجل أيضاً، لأن من الجمال ما لا يمكن وصفه بالوصف، ومنه ما يختلف باختلاف الرائي، ويُشير إلى ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم:“الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ” رواه مسلم. 
لهذا دعا الإسلام كلاً من الخطيبين ونبهه إلى أن يسأل عن أحوال الثاني ويعرفه، وأن يتحرّى عنه بكل الوسائل المتاحة، كما دعاه إلى رؤيته أيضاً، ليتم بذلك له معرفة أحواله من كل جوانبها.  

وقد روي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار عدة، منها: ما رواه المزنِيِّ عَن المُغِيرَةِ بنِ شعبَة رضي الله عنه “أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا، قال المغيرة: فأتيت أبويها فأخبرتهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم فكأنما كرها ذلك، فسمعت ذلك المرأة في خدرها فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر، قال المغيرة: فنظرت إليها فتزوجتها”. رواه الترمذي.

هذا وقد أباح الفقهاء لمن استشير في خاطب أو مخطوبة أن يذكر ما يعرفه عنه بصدق، ولا يُعد هذا غيبة، بل واجبٌ على بعضهم ذكر ذلك على من استشير، ويقدم في ذلك التعريض على التصريح، فإن أغنى التعريض لم يحل التصريح، فإن استشارة في إنسان وهو يعلم عنه سوءاً، فإن له أن يقول له: لا يناسبك، أو الأولى أن يصرف النظر عن هذه الخِطبة، فإن كفاه ذلك لم يجز له شرح الأسباب، وإن لم يكفه وأصرّ على البيان جاز له بيان الأسباب بصدق.

حدود النظر إلى المخطوبة وشروطها:

اتفق الفقهاء على إباحة نظر الخاطب إلى وجه مخطوبته، لأنه محل العناية غالباً، وذهب الجمهور إلى إباحة النظر إلى الكفين أيضاً، ومنعوا النظر إلى ما وراء ذلك.

وذهب بعض الفقهاء وروي ذلك عن أحمد بن حنبل – إلى جواز النظر إلى ما يظهر من المرأة عادة في بيتها، كالرقبة والساعدين والساقين، واستدلّوا لذلك بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب أم كلثوم ابنة علي بن أبي طالب رضي الله عنهما فذكر منها صغراً، فقالوا له: إنما ردّك، فعاوده فقال: يرسل بها إليك لتنظر إليها، فلما رآها رضيَ بها فكشف عن ساقيها، فقالت: أرسل، لولا أنك أمير المؤمنين للطمتُ عينك، فلما رجعت إلى أبيها قالت له: بعثتني إلى شيخ سوء، فعل كذا وكذا، فقال لها: هو زوجك يا بنية “المغني لابن قدامة “.

هذا وقد اشترط الفقهاء لجواز رؤية الخاطب خطيبته الشروط الآتية:

1. أن يكون ذلك بإذنها وإذن أوليائها، فإذا لم يأذنوا بذلك لم تحلّ الرؤية، وذهب البعض إلى جواز الرؤية بدون علم من أحد، واستدلوا لذلك بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:“إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ الْمَرْأَةَ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ، قَالَ فَخَطَبْتُ جَارِيَةً فَكُنْتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا حَتَّى رَأَيْتُ مِنْهَا مَا دَعَانِي إِلَى نِكَاحِهَا وَتَزَوُّجِهَا فَتَزَوَّجْتُهَا”.رواه أبو داود، والقول الأول أقوى عندي سداً للذريعة.

2. أن لا يكون في الرؤية اختلاء بالمخطوبة أو مجالستها بدون مُحرم لها، وذلك كأن يكونا وحدهما في مكان واحد بعيداً عن أنظار الآخرين، لأنها أجنبية عنه، والاختلاء بالأجنبية حرام، لأحاديث كثيرة ومنها:
ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:“لا يَخْلُوَنَ رَجُلٌ بامْرَأَةٍ إِلا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ وَلا تُسَافِرْ المَرْأَةُ إِلا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا قَالَ انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امرَأَتِكَ” رواه مسلم.

3. أن يكون ذلك بنيّة الخِطبة، فلو نظر إليها بنية المتعة فهو محرّم، ولذلك ذهب بعض الفقهاء إلى عدم حل النظر هذا إلا بعد ركون أهل الخطيبة إليه وموافقتهم المبدئية عليه، ولم يشترط ذلك فقهاء آخرون، واكتفوا باشتراط نية الخطبة منه عندما تقوم الرغبة في نفسه لخطبتها، إلا أنهم اشترطوا أن يظن موافقتهم عليه إذا خطبها، فإذا لم يظن ذلك لم يحل له النظر.

4. أن لا يكون النظر إليها بعد تعرّفه عليها، فإذا تعرّف عليها وارتضاها فلا يحلُ له النظر ثانية، لأنه مُتعة، وهي محرَّمة، وكذلك إذا تعرَّف إليها ولم يرتضها، فإن تكرار النظر إليها لا يحل، لعدم الحاجة إليه بعد العزوف عنها، ولهذا نقول: إذا عرفها بالنظرة الأولى لم تحلّ له الثانية لعدم الحاجة، فإذا لم تتيسّر له المعرفة بالنظرة الأولى لخجل أو غيره، فيحلّ له النظر ثانية وثالثة بمقدار الحاجة، ولا يباح ما راء ذلك، وكذلك إطالة النظر إليها أكثر من الحاجة، فإنها محرمة كتكراره، للسبب نفسه.


شارك المقالة: