السمات الفكرية التي يتحلى بها نوح عليه السلام:
إنّ من أهم السمات التي تحلت بها نوح عليه السلام ما يلي:
- أن التوحيد هو أساس الفطرة والفكرة:
فمنذُ هبوط آدم عليه السلام إلى الأرض كانت الناس على دين التوحيد والفطرة، وقد كان بين آدم إلى زمن نوح عَليمها السلام، عشرة قرون، كلهم على التوحيد، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: “كان بين آدم ونوحٌ عشرةُ قرونٍ كلُهم على شريعة من الحق، فلّما اختلفوا بعث الله النبيين والمُرسلين وأنزل كِتابه فكانوا أمةً واحدةً” المستدرك في الصحيحين.
ثم ما لبث أنّ بدأ الشرك يسري في جسد القوم، فبعد أن مات رجالٌ صَالحون من قوم نوح عليهم السلام اتفقوا على أن يجعلوا لهم تماثيل تذكرهم بعبادتهم وتعينهم عليها، لكن خلفهم قومٌ طال عليهم الأمد فظنوا أن أسلافهم كانوا يعبدون تلك التماثيل، فتَواصوا بينهم أن عضّواً عليها بالنَواجد، يقول تعالى:”وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا” نوح:23.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “صارتُ الأوثان التي كانت في قومِ نوحٍ في العرب بعدُ، أما ودٌّ كانت لكلبٍ بدومةٍ الجندل، وأمّا سواعٌ كانت لهُذيلٍ، وأمّا يغوثُ فكانت لمرادٌ، ثم لبني غُطيف لاجوف عند سبإٍ، وأمّا يَعوقُ فكانت لحميرٍ لآل ذي الكلاع، أسماءُ رجالٍ صالحين من قوم نوحٍ، فلما هَلكوا أوحى الشيطانُ إلى قومهم، أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسمّوها بأسمائهم ففعلوا، فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخَ العلمُ عُبدَت”. صحيح البخاري. - التوكل:
فعلى الداعية الصادق أن يتوكل على الله تعالى أثناء تبليغ رسالته، وألا يغترُ بنفسه أو بفهمه، فنوحٌ عليه السلام قال: “فَعَلى اللهِ تَوكّلتُ” يونس:71. وأن يوقن الداعية أن الهداية من الله تعالى، وأنه سبحانه هو الكفيل بإخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور التوحيد، وأن الداعية مهما عمل فلا سلطان له قلوب البشر، فنوحٌ عليه السلام لبث في قومهِ ألفُ سنةٍ يدعوهم بشتى الوسائل وفي كل الأوقات، وفي النهاية يقول تعالى: “ومَا آمنَ معهُ إلّا قليلٌ” هود:40.
فعلى الداعية أن يُفوض أمرهُ دوماً لله تعالى بعد الأخذ بالأسباب، فالله تعالى أمرَ بِصُنع السفينة ففوض نوحٌ عليه السلام أمر له سبحانه وشرعَ في صنعها وترك النتيجة لمولاة كل ذاك بعد الأخذ بالأسباب، ولو شاء الله لأنجى المؤمنين بلا سفينةٍ، لكنه سبحانه وتعالى أمرهم بصنعها من أجل الأخذ بالأسباب، يقول تعالى:”وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ” هود:37. قال الرازي: أخبر القوم بأنّ السفينة ليست سبباً لِحصول النجاةِ بل الواجب ربطُ الهِمة وتعليق القلب بفضل الله تعالى.
إنّ ما فعله نوح عليه السلام كان هو خالصُ الانقياد لأمر الله تعالى ولو كان ظاهره مخالف للعقل، فصنع سفينةٍ في البر بعيداً عن البحر بمسافات كبيرة، فهذا ضربٌ من الجنون، لكن عقولُ الناس قاصرةً على إدراك النهايات، فكان الأسلمُ إتباع الذي يعلم السرُ وأخفى. - بعد النظر واعتبار المآلات:
ويُقصد به الحكمُ على مقدمات التصرفات بالنظر إلى نتائجها، ومعناه أنّ الداعية لا يقوم بالحكم على التصرف قولاً كان ذلك التصرف أو فعلاً إلّا بعد أن ينظر في مآله ونتائجه ويُقدر ما سيتمخض عنه تطبيق ذلك التصرف، وإن كانت البدايات ظاهرها الخير، فيقطعُ دابر ما قد يُفسد المدعو، فإن بداية شرّ الشرك بدأ بما ظاهره الخير، حيث أرادوا تذكر القوم الصالحين والتأسي بهم.
قال الرازي في معرض تفسيره لقوله تعالى: “وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ” البقرة:168. لأن الشيطان إنّما يُلقي إلى المرء ما يجري مَجرى الشُبهة فيُزينُ بذلك ما لا يحلّ له فَزجرَ الله تعالى عن ذلك، ثم بين العلة في هذا التحذير، وهو كونه عدواً مبيناً أي متظاهرٌ بالعداوةِ، فعلى الداعية التنبه لخطوات الشيطان؛ لأن الشيطان لا يكلّ ولا يمل، فقد عملَ طوال القرون العشرة ما بين آدم ونوح على غواية الناس حتى وصل إلى مراده، وهذا دأبه يوم الدين.
وبدون معرفة المآلات والعواقب، التي تترتب على تنزيل الحكم على الواقع، يغيب الفقه الحقيقي في الدين، ويُساء التطبيق، ويُتعسف فيه، ويُعبثُ بالأحكام الشرعية، الأمر الذي يؤدي إلى العنت، وغياب الأهداف والمقاصد التي من أجل تحقيقها جاءت الشريعة. وتُعتبر معرفة المآلات من أرقى أنواع استشراقِ المستقبل والتخطيط له، كما أنه يُعين الداعية في بابِ سد الذرائع؛ لأن الذريعة في نفسها غير ممنوعة، لكن يخشى من فعلها أن تجرّ مستقبلاً للوقوع في ممنوع ٍ أو محظور.