ما هي العصمة؟
العصمة لغة: وتأتي بمعنى المنع واستعصم بالله أي امتنع بلطفه عن المعصية، يُقال عصمهُ عن الكذب أي منعه، ومنه قوله تعالى: “قال سآوي إلى جبلٍ يعصمني من الماء” هود:43. أي يمنعني من الفرق، وقوله تعالى: “ولقد راودتهُ عن نفسهِ فاستعصم” يوسف:32. أي امتنع امتناعاً شديداً.
والعصمة اصطلاحاً: هي اجتناب المعاصي مع التمكن منها. أو هي عبارة عن ملكة تحول دون ارتكاب المعاصي صغيرها وكبيرها. أو هي حفظ الله لأنبيائهِ ورسلهِ عن الوقوع في الذنوب والمعاصي وارتكاب المنكرات والمحرمات. أو هي لطفٌ من الله تعالى يحملهُ على فعل الخير ويزجرهُ عن فعل الشرّ مع بقاءِ الاختيار تحقيقاً للابتلاء.
عصمة آدم عليه السلام في الإسلام:
عصمة الأنبياء هي الحصانة التي يمنحها الله لهم حتى لا ينزلِقوا في الخطيئة، فالعصمة ثابتة للأنبياء، وهي من صفاتهم التي أكرمهم الله بها وميّزهم عن سائر البشر، والعصمة لا تكون إلا للأنبياء، حتى يظلوا مبرئين من النقائص، والعيوب ليكونوا القدوة الحسنة والمثل الأعلى أمام الناس، لكي يقتدوا بهم ويسيروا على مناهجهم، فالأنبياء هم قادة البشرية في دنياهم وأخراهم، فلا بدّ أن تتوفر فيهم جميع الصفات الحسنة والأخلاق الكريمة والسجايا العظيمة، صادقين مبرئين من العيوب، معصومين عن الخطايا والذنوب، لذلك فقد قرر علماء المسلمين أن صفات الأنبياء لا بدّ أن تتوفر فيها العصمة والذكورية والاستقامة والصدق والأمانة والتبليغ والفطنةِ والسلامة من العيوب المنفرة، فقد اقتضت حكمته تعالى أن يكون أنبيائه أكمل البشر خلقاً وخُلقاً، وأصدقهم قولاً، وأشرفهم نسباً، وأفضلهم علماً، وأشدّهم فطنة، مبرئين من العيوب؛ لأن أنبياء الله إذا لم يكونوا كذلك صغر شأنهم في أعين الناس، ولما استجاب لهم أحد، ولو طرأ عليهم عيوب كالكذب والخيانة لقبّحت سيرتهم عند البشر، ولضَعفت الثقة بهم ولأصبَحت طاعتهم علينا غير واجبة، وبذلك تذهب الحكمة من إرسالهم، لذلك كله عاش الأنبياء كل حياتهم صفحة بيضاء معصومين عن الوقوع في الذنوب حتى غدت حياتهم بعد الممات مصابيح تُضيء للإنسانية طريق الرشاد ونور للهدايةِ.
لقد أجمع علماء المسلمين على عصمة الأنبياء من الكبائر، فلا يليقُ أن تقعُ من أحدهم كبيرةً لا قبل البعثة ولا بعدها، أما الصغائر التي لا تخلّ بالمروءة ولا تستلزم الخسة فهي محل خلافٌ عند علماء المسلمين، والبحث فيه داخلُ في الأمور الاجتهادية التي تنهض لها أدلةً قاطعة تقطعُ دابر الخلاف فيها.
فجمهور أهل السنة والجماعة يقررون القول بامتناع الصغائر في حق الأنبياء، خصوصاً بعد البعثة، وتجوز عليهم سهواً، ولكن لا يُصرون عليها ولا يقرّون عليها، بل يُنهون فينتهُون، كما وقع لآدم عليه السلام عندما أكل من الشجرة على وجه النسيان، وذلك؛ لأنهم بشرٌ يعتريهم ما يعتري ما يعتري سائر الناس، فيما لا علاقة له بتبليغ الأحكام، ولا نرى لزاماً علينا أن نخوض في شيء من الخلافيات الفرعية التي يجوز للمجتهد أن يجتهد فيها إلى أكثر من حكم نظراً للأدلة المحتملة.
هناك سائلٌ يسأل فيما إذا كان الأنبياء معصومين من الوقوع في المعاصي؟ فما هو التفسير لمعصيةِ آدم عليه السلام؟ لقد أجاب بعض العلماء على هذا السؤال من عدة وجوه وهي ما يلي:
– أن آدم أكل من الشجرة ناسياً لا قصداً ولا عمداً كما قال تعالى: “ولقد عَهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عَزما” طه:115. والجواب على ذلك: هو أن الأنبياء مع علو مكانتهم وارتفاع منزلتهم يلزمهم ما لا يلزم غيرهم من التحفظ والتيقظ لكثرة معارفهم، فكان تشاغل آدم عن تذكر النهي تضيعاً منه ومعصيةً، لذلك قالوا إن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فما يوصف به عامة الناس أنها حسنات قد تكون في حق الأنبياء معصيةً، لأنهم مكلفون بالترفُع والتعالي والأخذ بالعزيمة، حتى يكونوا مثالاً للبشرية جمعاء.
– إنه كل متأولاً، لأنه ظن أن المراد من قوله تعالى: “ولا تقربا هذه الشجرة” البقرة:35. عين تلك الشجرة فأكل من شجرة أخرى من جنسها، فوقع في المخالفة، وليس عن سابقِ نية، فآدم في واقع الأمر قد اجتهد فأكل، فالخطأ هنا في الاجتهاد، وعُدّ الاجتهاد عصياناً لعلوِ مركزه وسمو مقامهِ.
– إنه حُمل النهي على الندب والتنزيه، فقد فهم الأمر أمرُ إرشاد فقط دون نهيٍ جازم، وما كان من هذا القبيل لا يحرم مخالفتهُ، بل ظنّ أنه مطيعٌ لله، وأن ذلك مباحٌ له، لذلك أقدم على الأكل من الشجرة.
– إنّ الأكل كان قبل النبوة المستلزمة للعصمة من المعصية بدليل قوله تعالى: “ثُمّ اجتباهُ ربه” طه:122. وقوله تعالى: “إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً” آل عمران:33. فقد اجتبى آدم واصطفى بعدما وقعت المعصية وأصبحَ من الأنبياء.
– إنّ آدم أحسن الظن بإبليس وما ظن أن أحداً يحلفُ باللهِ حانثاً فصدقهُ وأطاعه فقال تعالى: “وقاسمهما إنّي لكما من الناصحين” الأعراف:21. فغرر آدم بالقسم فأكل منها، فوجه إليه اللوم.
– إنّ ما حصل من آدم صغيرةً لا يؤاخذُ عليها، وهذا القول على رأي من يرى أن الأنبياء غير معصومين من الصغائر.
– إنّ آدم أكل من الشجرة في غير عقلهِ عندما سقتهُ حواء خمراً، وهذا القولُ منسوبٌ لابن المُسيب زوراً وبهتاناً وقد ردّ العلماء على هذا القول وبينوا تهافتهِ كابن الجوزي وابن العربي؛ لأن خمر الجنة لا غول فيها ولا سكر، فهذا قولٌ مردةدٌ بالعقل والشرع.
لقد قال ابن العربي: وهذا فاسد نقلاً وعقلاً، أما النقل فلا يصحُ بحالٍ وقد وصف الله عزّ وجل خمر الجنة فقال: “لا فيها غولٌ ولا هم عنها يَنزفون” الصافات:47. وأما العقل فلأن الأنبياء بعد النبوة معصومون عما يؤدي إلى الإخلال بالفرائض، واقتحام الجرائم.
ويقول ابن الجوزي: والعجيب في حكاية الثعلبي مثل هذا عن سعيد بن المُسيب وهو إمامُ وقته في العلم والزهد والورع والتحرز في أقواله عن مثل هذا، وقد اتفق العلماء على أن خمر الجنة لا يُسكر ولا يذهب العقل، فقال تعالى: “لا يُصدعونَ عنها ولا ينزفون” الواقعة:19.
والرأي الراجح هو القول الأول، أن آدم أكلَ ناسياً، رجحهُ معظم العلماء والمفسرون مثل القرطبي والرازي وابن العربي، والكثير من العلماء المحدثين مثل الصابوني وسيد سابق وضيف الله وغيرهم ورجحان هذا القول مستند إلى القرآن الكريم بصريح الآية: “ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسيَ ولم نجد له عزماً” طه:115. فالنسيان يرفع الإثم عن الفاعل كما قال عليه الصلاة والسلام: “رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه”. وقال تعالى: “ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا” البقرة: 286.
فلم تكن معصية آدم عن قصدٍ وعزم، بل كانت عن نسيان، والله لا يؤاخذ على النسيان؛ لأنه تكليف ما لا يُطاق، والله عزّ وجل لا يكلف نفساً إلا وسعها، قال تعالى: “ليس عليكم جُناحٌ فيما أخطأتم به ولكن ما تَعمدت قلوبكم” الأحزاب:5. واعتبر هذا النسيان من آدم عصياناً لرفعهِ مقامه عند ربه، فهو الذي خلقه بيده وننفخَ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء وأسكنه الجنة، فكان الأولي على آدم أن يتذكر عهد الله إليه، فلما نسي عُدّ ذلك معصية والله أعلم.