عهد التدوين لعلوم القرآن الكريم

اقرأ في هذا المقال


جاء عصر تدوين المؤلفات فتم تأليف الكتب في جميع تخصصات علوم القرآن، كل علم من العلوم لوحده واتجهت الجهود قبل كل شيء إلى علم التفسير باعتباره الجامع لجميع علوم القرآن لما فيه من التعرّض لها، في كثير من المناسبات عند شرح الكتاب العزيز.
وقد تخصص عدد من الصحابة بفقه القرآن الكريم، وعلم تفسيره ، وقد نقلت كتب الأحاديث روايات كثيرة منسوبة إلى الخلفاء الراشدين وكثير من الصحابة في تفسير بعض الآيات سماعاً عن الرسول صلى ‌الله ‌عليه‌ وسلم فقد وصف سيدنا عليّ رضي الله عنه بأنه أقرأ من حفظ القرآن وأنه ما في الأرض أعلم منه لكتاب الله ولن نقف عند الجيل الأول من الصحابة كلّه إنما نكتفي بذكر الصحابي ابن عباس الذي ترأس فيما بعد مدرسة من كبار التابعين الذين تتلمذوا عليه وأخذوا عنه.

عهد التدوين لعلوم القرآن الكريم:

وقد نُقل لحبر الأمة ابن عباس تفسير معروف تم شرحه من العلامة  الفيروز آبادي اسمه (تنوير المقباس من تفسير ابن عباس) ولكنه يبدو مختصراً فيما ينقل عنه مقارنة بالروايات المنسوبة إليه في كتب التفاسير الأخرى ـ مع ما في بعضها من وضع أو زيادة ـ فإننا نستطيع أن نجد تفسيره مبثوثاً في كتب التفاسير المتأخرة مثل «تفسير الطبري» الذي ينقل روايات تلاميذه عنه، وقد ترك ابن مسعود مدرسة أخرى للتفسير في العراق ، كان من أشهر رجالها الأسود بن يزيد ، والحسن البصري ، وعامر الشعبي ونجد كتبا منسوبة إليهم في تفسير القرآن.

وقد شملت كتب التفسير بالمعنى الشامل والواسع الذي فيه التتبع (لغريب ومعاني القرآن ) ، كذلك إعراب القرآن، وأما وجود معاني الآيات فإنه اقتضت الحاجة إلى معرفة سبب نزولها وتتبع أقوال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشأنها،  حيث قال الواحدي في أسباب النزول، (ولا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها).
ونستطيع أن نستخلص جملة كبيرة من المعارف المتعلقة بأسباب النزول من كتب التفسير ذاتها ؛ لأن المفسّر وهو ينقل روايات مختلفة الإسناد عن معاني الآيات ينقل معها آراء بعض الصحابة في سبب نزولها أو تسمية من شهد ظروف نزولها وأحكامها. ومع، ذلك فقد وجد من تحرج من القول بأسباب النزول خوفاً من قبول رواية فيها ضعف أو طعن زيادة في الحرج الديني ، فابن سيرين المشهور بتعبير الرؤيا كان عالماً بالدين وعلومه وفي نفس الوقت يحدثنا بأنه سأل عبيدة عن آية من القرآن فقال له: (اتق الله ، وقل سدادا ، فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن).

هذا التشديد على قبول الروايات التي تتعلق بظروف نزول الآيات الكريمة وهو يشبه إلى حد كبير تشدد من ترك تفسير القرآن الكريم خوفاً من الوقوع بالخطأ أو الوهم. ويبقى الجمهور الكبير من العلماء مستمرين بالبحث والدراسة والتتبع لمعارف عصرهم المتعلقة بالقرآن الكريم ، ومن بينها أسباب النزول معتمدين على معايير دقيقة هي نفس المعايير التي ترجح قبول رواية على غيرها في التفسير أو الحديث النبوي الشريف مما هو معلوم لدى الباحثين.
وقد أفرد العلماء الروايات المتعلقة بأسباب النزول بمؤلفات سجّلتها المصادر القديمة وقد طبع بعضها. وإذا كان الواحدي قد نال شهرة كبيرة بسبب كتابه «أسباب النزول» فإن مؤلفين كثيرين قد سبقوه في هذا الميدان إلا أنهم لم ينالوا شهرته ، ولم يصلوا شأوه ، لا لأنه فاقهم بمؤلفه المشهور علما ومعرفة بل لأن كتبهم لم تصل إليهم.

وهناك دراسات بلاغات القرآن التي تتعلق بالقرآن الكريم فقد جاءت من فكرة إعجاز القرآن ، فقد نزل القرآن الكريم وفي العرب أفصح الفصحاء ، وأبلغ الخطباء ، وتحداهم على أن يأتوا بمثله فلم يقدروا كما قال تعالى : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (الطور : ٣٤) وتحداهم الله تعالى أن يأتوا بعشر سور منه في قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (*) ، فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) (هود : ١٣ ـ ١٤).
ثم تحداهم أن يأتوا بسورة في قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) (يونس : ٣٨). فلما عجزوا عن معارضته والإتيان بمثله على كثرة الخطباء والبلغاء فيهم ومع اعتدادهم بأنفسهم وعنادهم في معارضتهم للرسول الكريم لما عجزوا نادى عليهم القرآن الكريم بإظهار العجز فقال جل من قائل : (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الإسراء : ٨٨).

جاء التصوير من القرآن الكريم أدهش العرب مؤمنين وكافرين بالكتاب الكريم، فأما من فتح قلبه للإيمان فإيمانه وإسلامه إقرار بإعجاز القرآن ، ونبوّة نبيه الكريم ، وأما من أصرّ على كفره وعناده فإنه لم يكن ليتمالك نفسه ، فيظهر إعجابه ودهشته أو حيرته من بلاغة القرآن الكريم ، وأوصافهم للرسول صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم بأنه ساحر مرة ، وكاهن مرة أخرى ، وشاعر مرة ثالثة. هذه الأوصاف دليل تحير ، وانقطاع حجة، ودهشة لم يستطيعوا لها تفسيراً. ومن هنا دعت الآيات الكريمة المسلمين إلى قبول اجارة المشركين حتى يسمعوا كلام الله لأن مجرد سماع الآيات الكريمة يؤثر في نفوس سامعيه ، ولو لا أن سماعه حجّة عليه لم يقف أمره على سماعه ، ولا يكون حجة إلا وهو معجزة كما يقول في ذلك السيوطي في كتابه الاتقان.

وعندما ثبت أمر المسلمين ، وهرع الناس على قراءة كتابهم الكريم يتعلمونه ، ويستنبطون منه أحكام دينهم ، انبرى علماؤهم لدراسته وتفسيره فكان في جملة علم التفسير وقفات العلماء عند بعض الآيات أو الألفاظ شارحين ومفسرين إلا أن هذه الوقفات مع ما وجد فيها من تفسيرات أدبية أو فنية كما عرف عن ابن عباس أو تلميذه مجاهد ، لم تكن لتشكل نظرية أو علما بذاته كما عرف فيما بعد باسم (إعجاز القرآن).

والتكلم  عن الكتب التي تم تأليفها فهو يفيدنا في معرفة أقدم من كتب في إعجاز القرآن وهو الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر (ت ٢٥٥ ه‍) في كتابه (نظم القرآن)، هذا إذا أردنا من خصّ تأليفه لفكرة إعجاز القرآن دون تفصيل ، وتفريع لعلومه أما إذا فهمنا أن دراسة الاعجاز هي دراسة القرآن الكريم من جميع الوجوه البلاغية على اعتبار أن (الجهة المعجزة في القرآن تعرف بالتفكير في علم البيان) كما يقول المراكشي في شرح المصباح وأن معرفة إعجازه تقتضي دراسة جميع وجوه المعاني والبيان ، وأساليب الفصاحة والبلاغة فيه ليتعرف من خلالها على تفوق القرآن الكريم ـ وقد نزل بلسان العرب وأساليبهم ـ على غيره من كلام العرب ، ويتعرف بالتالي على بعض أسرار اعجازه..
إذا أخذنا بهذه الفكرة الواسعة لعلم الاعجاز القرآني وجدنا مؤلفا آخر سبق الجاحظ الى هذا الفن وهو الكسائي ، علي بن حمزة (ت ١٨٩ ه‍) والذي ألّف كتابا في «الهاءات المكنى بها في القرآن الكريم». وقال في الكتاب: ونميل إلى هذا الرأي لاندراج كل دراسة تتعلق بوجه من وجوه البلاغة في القرآن الكريم ضمن إعجاز القرآن على اعتبار أن هذه الدراسات جميعا تتناول جانباً من جوانب الإعجاز القرآني.

وتتبع بعد ذلك مجموعة من المؤلفين في إعجاز كتاب الله تعالى حتى نصل إلى تطور نظرية الإعجاز عند الخطابي، وله رسالة ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، كذلك ، وابن درستويه (ت ٣٣٠ ه‍) في كتابه (إعجاز القرآن) والرماني علي بن عيسى (ت ٣٨٤ ه‍) وله رسالة طبعت ضمن «ثلاث رسائل في إعجاز القرآن» والباقلاني (ت ٤٠٣ ه‍) في كتابه (إعجاز القرآن) والجرجاني عبد القاهر المتوفي سنة ٤٧١ ه‍.


ومن الذين صنفوا في التشبيه في القرآن الكريم من العلماء ابن البندار البغدادي في كتابه (الجمان في تشبيهات القرآن) وهناك من ألّف في البيان أو المعاني في القرآن الكريم مثل كتاب (التبيان في علم البيان المطلع على إعجاز القرآن) لعبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف الأنصاري ، وكتاب ابن المبارك (حور العين في تبيين وجه نظم سور القرآن)، وممن ألّف في البديع ابن أبي الأصبع العدواني (ت ٦٥٤ ه‍) في كتابه (بديع القرآن) ، وفي التورية بالقرآن الكريم ألّف محمد فخر الدين الهروي كتاب (الدرر الحسان في التورية بسور القرآن)، وألّف جلال الدين السيوطي كتاب (فتح الجليل) ذكر فيه ١٢٠ نوعا من البديع في قوله تعالى : ((اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) صدق الله العظيم  البقرة : ٢٥٧.


شارك المقالة: