وحي الله إلى أم موسى عليه السلام:
قال الله تعالى: “وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ” القصص:7.
“الوحي” في عموم اللغة معناه: إعلام بطريق خفي .لكن الوحي الشرعي :هو إعلام من الله ورسوله بمنهجة لخلقه هذا هو الوحي الشرعي ،بخلاف الوحي في اللغة ؛لأنه قد يكون الموحي هو الله، يوحى الى الملائكة كما قال تعالى: “إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ” الأنفال:12. كما يوحى سبحانه الى الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم ؛كما في قولة تعالى: “أن أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبين من بعده” أذن هناك وحي الملائكة، ووحي للانبياء والرسل، وهناك وحي للمؤمنين، كما في قوله تعالى :“واذ أوحيت الى الحوارين ان ءأمنو بي وبرسلي” وكما أوحى سبحانه الى أم موسى، والى السيدة مريم، ليس هذا فقط؛ بل اوحى الله سبحانه وتعالى الى النحل. كما في قولة تعالى :وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ” النحل:68. ليس هذا فقط ؛بل أوحى الله الى الجماد أيضا فقال سبحانه وتعالى: “إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا – وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا – وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا – يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا – بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا” الزلزله:1-5.
فهذا كله اعلام من الله تعالى الى كل الاجناس وقد يكون الإعلام من الشيطان ؛كما في قولة تعالى:”وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ“الأنعام: 122. وقد يكون الوحي بين الضالين من بعضهم لبعض ،كما في قولة تعالى “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ” اذن .. فالوحيّ على اطلاقه: إعلام بطريق خفي ،الى اي مخلوق، في اي موضوع.
أما الوحي الشرعي: هو من الله تعالى للذي أصطفاه من رسله بمنهج يهدي به خلقه، فالوحي إلى أم موسى من المرتبةِ الرابعةِ، لكن هل الوحي ما معنى كلمة الوحي وما هي صوره؟ي إلى أمّ موسى كان نفثاً من الروعِ وإلهاماً؟ قد يجوز، وهل كان بواسطة رؤيا؟ قد يجوز، وهل كان بواسطة ملك كلّمها وأرشدها إلى هذا الفعل؟ المهم أن الذي أوحى بذلك إلى أم موسى هو الله تعالى، أوحى إليها بماذا؟ لقد أوحى إليها بأمرين وهما:
الأول: “وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ“. والأمر الثاني: “فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ“. ومن النواحي: قول الله تعالى: “ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ” القصص:7. فهذه آيةً واحدة جمعت بين أمرين، ونهيين وخبرين وبشارتين في إيجازٍ معجز.
وقضية الوحي إلى أم موسىوردت في القرآن مرتين، فظنّ المستشرقون أن القرآن يكرر الآيات دون داعٍ، وجاءوا بقول الله تعالى: “إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ –أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ” طه:38-39. وهنا هذا الوحي لم يذكر أن أرضعيه؛ لأن الرضاع في وقت الأماكن، لكن الوحي هنا جاء في وقت الخوف، وكلمة “إقذفيه” هي دليل الاستعجال واللهفة، فليس فيها حنان؛ لأنه ليس هناك وقت للعواطف، فتقذفهُ في التابوت، ثم تقذف التابوت في البحر، ثم أمر الله البحر أن يلقي التابوت إلى الساحل أمام قصر فرعون.
إذن، ما دام لم يذكر كلمة “أرضعيه” في هذه الآية، فهذا دليل على أن الحديث هنا عن الموقف ساعة الخوف عندما أمرها الله بإلقائه في اليم بالفعل فكأن الوحي الأول الأول تمهيداً لما سيحدث لتستعد نفسياً للعمل. ولذلك تجد في الكلام الأول اطمئناناً، وذلك في قول الله تعالى: “وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ” القصص:7. نجدُ الكلام يغلب عليه طابع الهدوء والاطمئنان؛ لأنه ليس في وقت الحدث.
ولكنه تمهيد وإعداد لما قبل الحدث، لكن الكلام في الآية الأخرى جاء وقت الحدث، فكأن يقول لها: هيا ضعي الولد في التابوت، وأقذفيه في اليّم قبل أنّ يقتلهُ جنود فرعون، ألقته بسرعةٍ؛ ولذا تجد الأسلوب في سرعة واستعجال؛ فالوقت لا يسمح بالإطناب. قال تعالى: “أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ” فالله قد طمأنها عليها حتى لا تخاف؛ لأنه حين يُلقيه اليمُ بالساحل فهذا أمان له.
شعور أم موسى عند إلقاء ابنها في اليمّ:
وقال تعالى: “وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ” القصص:10. إن كلّ واحد منا له صدر، والصدر فيه القلب، والقلب فيه الفؤاد، والقلب لا يسمى فؤاداً إلّا إذا كان فيه قضايا تحرك حركته، وكلمةُ “فارغاً” معناها ليس فيه شيءٌ ينفع، وليس فيه قضية تضبط التصرف، فأم موسى أصبح فؤادها فارغاً من الشيء الذي يضبط التصرفات؛ لأنها لم تكن قادرةً على تحمل هذا الموقف الصعب، لولا أن ربط الله على قلبها وصبّرها.
والإنسانُ حين يُدرك شيئاً يدركه بآلةِ إدراك، فإما أن يسمعهُ أو يراه أو يلمسهُ أو يشمه أو يتذوقه، فمثلاً لو كان الإنسان في بستنان، ورأى وردةً جميلةً أعجبتك فأنت ساعة نظرت إليها استقر في نفسك وجدان تجاهلها، فإذا أردتَ أن تقطفها فهذا يُسمى نزوعاً، فالذي يضبط قضية النزوع هذه هو، هل ستقطف هذه الوردة من بستان مملوكٍ لغيرك، فتجد عندك قضية في قلبك، وهي أن هذا ليس من حقك؛ لأنها ليست ملكك.
إذن فالقلب هو قضيةً وهي أن لا تتعدى على ما ليس لك، فأم موسى كان قلبها فارغاً من القضية التي تجعلها تصبر، ولا تذكر سيرة هذا الولد لأي إنسان، ولكن لأنها أم، والأم تخشى على ابنها من أقل خطر، فكادت تبدي قلقها، لولا أن ربط الله على قلبها، فالربطُ على القلب حتى يصبح الأمر عقيدةً لا تطفو على السطح.
وتعني هذه الآية أيضاً أن بلغ من فراغ قلبها أنها كادت أن تقول: هذا ابني، لولا أن ربط الله على قلبها، فالله ربطَ على قلبها لتكون من المؤمنين؛ لأن الإيمان يمنعك من الضرر ويجلب لك النفع، وإن كان الضار فيه شهوةً عاجلة لك، فهذا ابنها حقاً، وأنتِ ملهوفة عليه، لكنك لو أظهرتِ ذلك لفرعون أو أي أحدٍ آخر من حاشيتهِ فسيقتلونه في الحال، فالله لا يُريد منك ذلك حتى يبقى ابنك بجانبك حيّاً.