سراية الجرح إلى ما دون النفس:
إذا سرى الجرح إلى ما دون النفس، فالسرايةُ، إما أن تكون من فعل التعدي أو من فعل مأذون فيه أو مباح.
سراية الجرح إلى ما دون النفس من فعل مباح أو مأذون فيه:
إذا كان القطع مباحاً أو مأذوناً فيه فسرى إلى ما دون النفس، كأن قطع إصبعاً قصاصاً فشُلّت اليد، أو ضرب زوجته على ذراعها تأديباً فأتلفه، ذلك حكمه حكم السراية إلى النفس بالاتفاق والخلاف.
سراية الجرح إلى ما دون النفس من فعل التعدي:
يُفرق بين ما إذا كانت السراية لمعنى أو كانت لعضوٍ من الأعضاء.
أولاً: سراية الجرح لمعنى:
إذا كان الاعتداء على طرف فَسرى الجرح إلى طرفٍ آخر فأذهب معناه مع بقاء الطرف الآخر سليماً، فالحكم يختلف باختلاف الجناية إذا كانت فيها القصاص أو كانت ممّا لا قصاص فيه.
1. إذا كانت الجناية ممّا يقتص فيها؛ كما لو شجهُ موضحة فأذهب بصرهُ، فالعلماء قالوا بذلك على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: يقتصُ من الجميع الشجة وذهاب البصر؛ فإن ذهب البصر بالقصاص من الشجة فقد أخذ المجني عليه حقه، وإن لم يذهب أزيل الإبصار دون جناية على الحدقة، فإن لم يزل الإبصار مع ذلك ففيه الدية، وهو مذهب الشافعية في المنصوص والحنابلة، ورواية عن محمد بن الحسن.
ودليلهمعلى ذلك ذهبوا إليه بالمعقول؛ لأن السراية تولدت من جناية يقتص فيها إلى عضو يمكن القصاص فيه، فوجب القصاص كما إذا سرى إلى النقص.
المذهب الثاني: لا قصاص في الشجة ولا في البصر وفيها الأرش.
وهو مذهب أبي حنفية. أدلة أصحاب المذهب، إن أصحاب المذهب الثاني لم يوجد لهم دليلاً يُعضد رأيهم، إلا أصلاً من أصول أبي حنيفة وهوو أن المعنى ذهب عن طريق التسبب وأبو حنيفة لا قصاص عند بالتسبب.
المذهب الثالث: يجب في القصاص في الموضحة والديّة في ذهاب البصر. وهو مذهب المالكية، وأبو يوسف ومحمد، والشافعية في قول آخر.
ودليل أصحاب المذهب الثالث، إنهم استدلوا على رأيهم بالمعقول؛ لأن تلف المعنى حدث عن طريق التسبب وليس بالسراية؛ لأن الشجة تبقى بعد ذهاب البصر، وحدوث السراية يوجب تغيير الجناية، مثل القطع إذا سرى إلى النفس، فإنه لا يبقى قطعاً بل يُعتبر قتلاً. وهنا الشجة لم تتغير فدل على أن ذهاب البصر ليس من طريق السراية بل من طريق التسبب لا توجب قصاصاً، ولأن هذه سراية فيما دون النفس فلم يجب فيها القصاص كما لو قطع إصبعه فتآكلَ الكف.
والبعض ذهب إلى المذهب الأول بوجوب القصاص من الشجة وذهاب البصر معاً، وذلك سدّاً لذريعة الاعتداء وحفاظاً على حق المجني، كما لا يتعذرُ القصاص من الشجة ومن ذهاب البصر؛ حيث يمكن إذهاب البصر بالوسائل الطبية الحديثة دون التأثير على حدقة العين.
2. إذا كانت الجناية ممّا لا قصاص فيها؛ كما لو شجه دون الموضحة فأذهب بصره اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: يقصُ من المعنى دون الفعل بطريقة علمية؛ لأنه لا قصاص في الفعل، فإن زال المعنى فقد أخذ المجني عليه حقه، وإلا أخذ المجني عليه حقه، وإلا أخذ أرش الفعل والمعنى، وهو رأي جمهور العلماء مالك وأحمد والشافعي.
وقد استدل أصحاب المذهب الأول بالمعقول؛ لأنه يمكن المماثلة في إذهاب البصر فوجب فيها القصاص، فإن لم يمكن القصاص إلا بالجناية على العضو سقط القصاص لتعذر المماثلة ووجب بدله.
المذهب الثاني: لا قصاص لا في الفعل ولا في المعنى ما دام الفعل لا يقتص منه. وهو مذهب الحنفية.
ودليل أصحاب هذا الرأي، هم الحنفية الذين لم يُوجبوا القصاص في الفعل ولا المعنى، فيبدو أنهم رأوا ذلك؛ لأن الجناية الأولى لا قصاص فيها لتعذر المماثلة، أما المعنى فقد ذهب عن طريق التسبب وأبو حنفية لا قصاص بالتسبب عنده.
فيتضح من مذهب الفقهاء أنهم أوجبوا القصاص أو عدمه بإمكان المماثلة أو عدمها، فإن أمكن القصاص على وجه المماثلة كان له القصاص، وإلا فلا فتبنى باقي المنافع على هذا الأساس.
ثانياً: سراية الجرح لعضوٍ آخر:
إذا سرت الجناية إلى آخر فالحال إما أن يكون العضو ممّا يقتص فيه أو ممّا لا قصاص فيه.
1. إذا كانت الجناية مما يقتص فيه: كما لو قطع إصبع رجل فتآكلَ منه الكف، فهل يجب القصاص على قدر الجناية أم في السراية الزائدة للعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: يجب القصاص في الجناية فقط لا فيما سرت إليه؛ فإن أدى القصاص إلى مثل ما أدت إليه الجنابة فقد استوفى المجني عليه حقه وإن لم يحصل في الجاني مثل ما حصل في المجني عليه وجب دّية ما سرت إليه الجناية، وهو مذهب مالك والشافعي.
واستدل أصحاب الرأي الأول بالمعقول؛ لأن الجناية الأولى عمد فوجب فيها القصاص، أما السراية فلا يجب فيها القصاص، لأن الكف يمكن إتلافه بالمباشرة فلم يجب فيه القصاص بالسراية.
المذهب الثاني: وفيه تفصيل، فإذا سرت الجناية إلى ما يمكن مباشرته بالإتلاف على وجه المماثلة وجب القصاص في السراية، وإذا سرت الجناية إلى ما لا يمكن مباشرته بالإتلاف على المماثلة، فالقصاصُ في الجناية دون السراية. وهذا رأي أحمد.
مثال: لو قطع إصبعاً فتآكلَ الكف وسَقط، فإن الكف التي سرت إليها الجناية يمكن مباشرته بالإتلاف فيقتص فيهما لذلك، أما لو قطع إصبعاً فشلت الكف فالشللُ لا يمكن مباشرته بالإتلاف على وجه المماثلة، فامتنع فيه القصاص ووجبت الدّية في الشلل.
ودليل أصحاب الرأي الثاني كان أيضاً بالمعقول؛ لأن ما وجب فيه القود بالجناية وجب فيه بالسراية كما هو الحال في النفس حيث يقتص من النفس في حالة السراية إليها.
المذهب الثالث: لا قصاص لا في الجناية ولا في السراية، وعليه الضمان.
وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأن القاعدة عند أبي حنيفة هي أن الجناية إذا حصلت في عضو فسرت إلى عضوٍ آخر والعضو الآخر لا قصاص فيه، ولا قصاص أيضاً بالعضو الأول، فإذا قطع إصبعاً من يد رجل فشلت الكف فلا قصاص فيهما وعليه ديّة اليد.
واستدل أيضاً أصحاب الرأي الثالث أيضاً بالمعقول؛ وذلك لتعذر المماثلة، إذ الواجب على القاطع قطع مثل الكف ولا يمكن الإتيان بمثله على وجه المماثلة فيمتنع القصاص، ولأن الجناية واحدة لا يجوز أن يجب بها ضمانانِ مختلفان، هما القصاص والمالُ خصوصاً عند اتحاد المحل؛ لأن الكف مع الإصبعِ وهي بمنزلةِ عضوٍ واحد.
2. إذا كانت الجناية مما لا قصاص فيها: فتلك لا قصاص في الجناية ولا في سرايتها، وفيهما الدّية والأرش باتفاق العلماء.