الدّين:
والدّين: عرف بأنَّه مطلق الحق اللازم في الذَّمة، سواء كان حقاً مالياً أو غير مالي، وسواء كان من حقوق الله، أو من حقوق العباد، فيشمل كل ما ثبت في الذّمة من أموال أو حقوق أيّ كان سبب وجوبها، فيدخل في ذلك ما ثبت في الذمة من صلاة، وزكاة وصوم، ونذرٍ وغير ذلك من الحقوق، وهذا الذي قال به جمهور الفقهاء.
ماهي أقسام الدين:
هل يجب على الدائن أن يضم الدين الذي له إلى أمواله فيزكيه مع أمواله ؟ أو لا تلزمه زكاته ؟ ويختلف هذا الحكم بحسب الاعتبارات والأمور المحتفة بالدين نفسه من حيث الحلول والتأجيل، والأمور المحتفة بالمدين من كونه يستطيع الأداء وعدمه، فالدين إمّا أن يكون حالاً أو مؤجلاً، فإن كان حالاً فلا يخلو من حالين إمّا أن يكون مليء باذل، أو على غير مليء باذل.
القسم الأول: أن يعتبر الدين حالاً:
وهذا لا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون الدين على مليء باذل معترف به , فقد اختلف العلماء في حكم زكاته على أقوال عدَّة أهمها:
1. تجب الزكاة فيه وإن لم يقبضه، وهو مذهب الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، واستدلوا بما يلي :
قياس دين المليء الباذل المعترف به على الوديعة، فكما يجب على صاحب الوديعة إخراج زكاتها مع كونها ليست في يده، فكذا صاحب الدين المرجو الأداء.
ونوقش : بأنَّه قياس مع الفارق، لأنَّ الوديعة بمنزلة ما في اليد، فالمستودع نائب عن المالك في الحفظ، ويده كيد المالك، بخلاف المستدين، فيده يدُ ضمان، ويجب عليه سداد الدين مطلقاً.
إن الدّين على مليء باذل معترف به، فلا مانع من قبضه، بل يستطيع قبضه في أي وقت، فلا أثر لكونه في يد غير مالكه، فتجب زكاته كل ما مرَّ الحول عليه.
2. تجب الزكاة فيه بعد قبضه لما مضى من السنين، وهو المعتمد عند الحنابلة، واستدوا :
الآثار المروية عن علي بن أبي طالب، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم، في عدم وجوب الزكاة في الدين حتى يقبض.
ونوقش : بأنَّ أقوال الصحابة من الأدلة المختلف فيها بين أهل العلم في حجية الاستدلال بها، وإن سلمنا بالأخذ والاحتجاج بها فإنَّ الصحابة رضي الله تعالى عنهم أيضا مختلفون في هذه المسألة.
إنَّ الزكاة مبنية على المواساة، وليس من المواساة أن يخرج زكاة مال لا يُنتفع به.
ونوقش : بأنَّ اعتبار المواساة في حقِّ الغني ليس بأولى من اعتبارها في حقِّ الفقير، حيث سيؤدي هذا القول إلى تأخير وصول الزكاة إليه، مع حاجته إليها.
3. وجوب الزكاة فيه بعد قبضه لسنة واحدة، وهو مذهب المالكية، ورواية عن الحنابلة، واستدلوا :
أنَّه يعتبر لوجوب الزكاة إمكان الأداء، والدّين لا يمكن أداؤه قبل قبضه، وإنَّما يمكن ذلك بعد القبض، فتجب زكاة السّنة التي قبض فيها.
ونوقش : بعدم التسليم فلا يعتبر في وجوبها إمكانية الأداء، وعلى التسليم فإنَّنا إذا لم نعتبر للدين حولاً قبل قبضه لعدم إمكانية الأداء فإنَّ الحول إنَّما يبتدأ بعد القبض , فلا تجب زكاته إلّا بعد حوَلان حول على قبضه.
4. عدم وجوب الزكاة فيه , وهو مذهب الظاهرية , ورواية عند الحنابلة، واستدوا بمايلي :
إنّ الدّين مالٌ غير نامٍ فلم تجب زكاته كعروض القنية، ونوقش : بأنَّه قياس مع الفارق، وذلك أنَّ الدين مال مملوك قابل للنماء إذا قبض، لا سيما إذا كان عند ملئ باذل معترف، بخلاف أموال القنية فهي معدَّة للاستعمال والفناء.
إنّ الدّين في حكم المعدوم، إذ لصاحبه عند الغريم عدد في الذِّمة، وصفة فقط، وليس عنده عين مال أصلاً، ونوقش : بأنَّه لا يسلم أنَّ الدّين في حكم المعدوم بل هو في حكم الموجود إذا كان على مليء معترف باذل.
يترجَّح القول الأول : وهو وجوب الزكاة في الاًدين المرجو إذا بلغ نصاباً، وحال عليه الحول، وذلك لقوة أدلتهم وسلامتها من المعارضة، ولما صح من أثار الصحابة، وهي وإن سلمنا بعدم الاحتجاج بها إلّا أنَّها مرجحة، لاسيما أنّه أمكن حمل ما يخالفها على الدين المظنون الغير مرجو.
الحالة الثانية : أن يكون الدين على غير مليء باذل – أي ديناً مظنوناً – , كالمعسر والمماطل والجاحد , فقد اختلف فيه أهل العلم على أقوال من أهمها ما يلي :
1. لا زكاة في الدين المظنون , وهو قول عند المالكية , والشافعية , ورواية عند الحنابلة , ومذهب الظاهرية , واختاره شيخ الإسلام، واستدلوا :
قول علي رضي الله عنه ” لا زكاة في الدين الضّمار،” أورده الزيلعي في نصب الراية وقال غريب.
إنَّ الدين الضِّمار مالٌ غير مقدور على الانتفاع به، فأشبه مال المكاتب فلا تجب الزكاة فيه.
2. وجوب الزكاة فيه لما مضى من السنين بعد قبضها، وهو قول عند المالكية، والشافعية، والمعتمد عند الحنابلة، واستدلوا بمايلي:
قول علي رضي الله عنه في الدين المظنون : إن كان صادقاً فليزكِّه إذا قبضه لما مضى , وكذا روى عن ابن عباس رضي الله عنهما نحو ذلك، “رواه أبو عبيد في الأموال”، ونوقش : بأنَّها آثار قد عورضت بآثار أخرى في عدم وجوب زكاة الدين الضمار كما تقدم.
إنَّ الدين المظنون مال مملوك يجوز التصرف فيه، فوجبت زكاته لما مضى كالدين على المليء، ونوقش : أنَّه قياس مع الفارق، فالدين على مليء يمكن الانتفاع به واستنماؤه، بخلاف الدين على معسر أو جاحد أو مماطل.
3. وجوب الزكاة فيه إذا قبضه لعام واحد، فيما إذا كان الدين عن عوض، فإن كان عن غير عوض فلا زكاة فيه، وهو مذهب المالكية.
· الترجيح : الذي يترجَّح والله أعلم هو القول الأول لقوة أدلتهم وسلامتها من المعارضة، وإن عمل بالقول الثالث كان أحوطاً له فيه دينه.
القسم الثاني: إذا كان الدين مؤجلاً:
فقد اختلف أهل العلم فيه على أقوال أهمها :
1. عدم وجوب الزكاة في الدين المؤجَّل، وهو وجه عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة، ومذهب الظاهرية، ورجحه ابن تيمية، واستدلوا بمايلي:
استدلوا بأدلة عدم وجوب الزكاة في الدين الحال على مليء، وقد تقدمت مع الإجابة عنها.
إنَّ الدين المؤجل لا يمكن قبضه فأشبه الدين على معسر، لعدم استقرار الملك بالقبض.
ونوقش : بأنَّه استدلال مختلف فيه، وهو زكاة الدين على معسر، ثم إنَّه على التسليم بعدم وجوب الزكاة في الدين على معسر، فلا يسلِّم القياس للفارق بينهما، فالدين المؤجل قد علم أجل قبضه، بخلاف الدين على معسر فإنَّه لا يعلم متى يقبض، كما أنَّ الدين المؤجَّل يكون برضا الدائن واختياره بخلاف الدين على معسر، فالقياس مع الفارق.
2. وجوب الزكاة في الدين المؤجَّل إذا قبضه لما مضى من السنين، وهو الأصح عند الشافعية، وهي الرواية المعتمدة عند الحنابلة، وقد أفتت بهذا القول اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء، واستدلوا :
أدلَّة وجوب زكاة الدين على المعسر.
أنَّ البراءة تصح من المؤجل، ولولا أنَّه مملوك لم تصح البراءة منه، وبناءً عليه تجب الزكاة فيه.
الترجيح : الذي يترجح والله أعلم هو القول الثاني، لقوَّة أدلتهم وسلامتها من المناقشة والترجيح.