ما هو أثر التقادم على العقوبة الحدية؟

اقرأ في هذا المقال


أثر التقادم على العقوبة الحدية:

يتضمن هذا الموضوع بياناً لأثرِ التقادم على العقوبة الحديّة بعد ثبوتها، فإن ثبتت العقوبة التي توجب حدّاً ثم تأخر تنفيذ الحد دون سببٍ شرعي فهل هذا التقادم يؤثر على سقوطها؟ الجواب هو أنه يُقال: إن العقوبة التي توجب حدّاً إما أن تثبت بالشهادة أو بالإقرار، وسأتكلمُ عن هؤلاء الأمرين.

أثر التقادم على العقوبة الحدية الثابتة بالإقرار:

إذا ثبت حداً من الحدود على شخص بطريق الإقرار، فأقر على نفسه عند القاضي بما يوجب الحدّ، ثم حصل تأخير في إقامة الحدّ عليه دون أن يكون هناك سببٌ شرعيٌ لذلك التأخير، ثم رجع المقرّ عن إقراره، فهل رجوعه عن إقراره بعد مضي تلك المدة يؤثر على العقوبة؟ نقول: إن العقوبة التي توجب حداً إذا كان ثبوتها بطريق الإقرار، ثم رجع المقر عن إقراره قبل تنفيذ العقوبة أو أثنائها؛ فإن ذلك سبب شرعي لإسقاط الحدّ عنه، سواء تقادم أم لا، فالحكم لا يختلف هنا بالتقادم، باستثناء حدّ القذف، فإنه لا يسقط عنه إذا رجع عن إقراره، وهذا مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
الدليل على ذلك: إن الدليل على هذا الأمر بالنصوص الشرعية التي دلّت على سقوط العقوبة عن المقر إذا رجع عن إقراره لم تفرّق بين ما إذا كان الإقرار متقادماً أم لا، ممّا يدلّ على أن التقادم لا يؤثر في سقوط العقوبة الثابتة بالإقرار، ومن هذه الأدلة ما يلي:
ما جاء في بعض روايات حديث ماعز رضي الله عنه، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال للصحابةِ رضوان الله عليهم، لما تَبعوا ماعزاً بعد هربه “هلا تركتموه يتوب، فيتوب الله عليه”. رواه أبو داود والحاكم والطبراني.

أثر التقادم على العقوبة الحدية الثابتة بالشهادة:

إذا ثبت حدّ من الحدود على شخص بطريق الشهادة، فشهد عليه الشهود بما يوجب الحدّ، ثم حصل تأخير في إقامة الحدّ عليه دون أن يكون هناك سببٌ شرعي لذلك التأخير، فهل يؤثر التقادم بعدم تنفيذ هذه العقوبة، وبالتالي تسقط العقوبة. واختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن العقوبة الحدّية إذا كانت ثابتةً بطريق الشهادة، ثم تقادم تنفيذها، فإن هذا التقادم يؤثر على تلك الشهادة، وبالتالي يسقط الحدّ وبهذا قال الحنفية.
وأدلة هذا القول: لقد استدل أصحاب هذا القول وهم الحنفية القائلون بأن العقوبة الحدّية إذا كانت ثابتةً بالشهادة، ثم تقادم تنفيذها، فإن هذا التقادم يؤثر في تلك الشهادة وبالتالي يسقط الحدّ بما يلي:


1. أن القضاء هو الشهادة وتنفيذٌ لمضمونها، ولكن لا يتولى الشهود التنفيذ، بل يتولاه وليّ الأمر أو نائبه، وهو نائب عن المجتمع في تنفيذ العقوبة. وإذا كان بين الشهادة والتنفيذ ذلك الارتباط الوثيق؛ فإن ما يُثبت لأحدهما يُثبت للآخر، فإذا كان التأخير يمنع من سماع الشهادة التي هي دعامة الحكم، فالتأخيرُ في تنفيذه يؤثر فيه كذلك كما يؤثر في الشهادة.
2. أن الإمضاء في الحدّ أي تنفيذه واستيفائه بعد ثبوته من القضاء بحقوق الله تعالى بخلاف حقوق غيره؛ لأن الثابت في نفس الأمر استنابتهِ تعالى الحاكم في استيفاء حقه، إذا ثبت عنده بلا شبهة، فكان الاستيفاء من تتمة القضاء، وإذا كان كذلك كان قيام الشهادة شرطاً حال الاستيفاء، وبالتقادمِ لم تبقِ الشهادة، وبالتالي لا يصح الاستيفاء ويسقطُ الحدّ.
3. وجود التهمة: وقد أشار إلى هذا السرخسي، حيث وجه التهمة هنا إلى أعوان الإمام بسبب تفريطهم في تحصي الهارب من الحدّ، فقال: إذا هرب فوجد بعد أيام في القياس أنه لا يمتنع إقامة بقية الحدّ عليه؛ لأنه إنما تأخر لعذر وهو هربه، فلا يكون ذلك قدحاً في الشهادة، ولكنه استحسن، فقال العارض في هذه الحدود بعد الشهادة قل الإتمام كالمقترنِ بالشهادة، بدليل عمى الشهود وردتهم، وهذا لأن التفريط هنا كان من أعوان الإمام حتى تمكن من الهرب منهم، فالظاهر أنهم مالوا إلى اكتساب سبب درء الحدّ عنه، ثم حملتهم العداوة على الجد في طلبه، فكان هذا والضغينة في الشهود سواء.
القول الثاني: أن العقوبة الحدّية إذا كانت ثابتةً بطريق الشهادة، ثم تقادم تنفيذها، فإن هذا التقادم لا يؤثر على تلك الشهادة من حيث الأصل، ولا يسقط الحدّ الثابت بها، وبهذا قال المالكية والشافعية والحنابلة وزفر من الحنفية.
وأما دليل هذا القول: بأنه استدل أصحابه وهم جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة القائلون بأن العقوبة الحدّية إذا كانت ثابتةً بالشهادة، ثم تقادم تنفيذها؛ فإن هذا التقادم لا يؤثر في تلك الشهادة، وبالتالي لا يسقط الحدّ بالتقادم بما يلي: إن مبنى دليلُ الجمهور في هذه المسألة، أن تقادم الجريمة التي توجب حداً لا يُعتدُ بتقادم الإثبات بها سواء أكان ثبوتها بالإقرار أو بالشهادةِ، وإذا كان الأمر كذلك فمن باب أولى أن التقادم لا يؤثر في تنفيذ العقوبة، وبالتالي لا يسقط الحدّ بالتقادم؛ لأن الاستفاء وتنفيذه فرعاً عن تقادم الإثبات، ولذلك لم يعتد الجمهور بتقادم الاستيفاء.


شارك المقالة: