إقرار عيسى عليه السلام بعبوديته لله تعالى؟
يقول الله تعالى: “وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءانتقُلت للناس اتخذوني وأمي إليهين من دُون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقُول ما ليس لي بحقٍ إنّ كنتُ قُلتهُ، فقد علمتهُ تعلم ما في نفسي ولا أعلمُ ما في نفسك إنّك أنتَ علامُ الغيوب” المائدة:116.
علينا أن نعرف أنّ هذا الحوار الذي سوف يدور بين الله تعالى وعيسى ابن مريم يوم َ يُجمع الحق سبحانه الرسل: “يَومَ يَجمعُ اللهُ الرُسُلَ فيَقُولُ ماذا أجبتم قالوا لا عَلِم لنا إنّكَ إنكَ أنتَ علامُ الغيُوب” المائدة:109.
قد يقول قائلٌ: لماذا جاء الله تعالى بهذا الحوار في صيغة الفعل الماضي؟ فللإجابة عن ذلك علينا أنّ نتأمل قول الله تعالى: “وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءأنت قُلتَ للناسِ اتخذوني وأمي إلهين من دُون الله”.
يجب علينا أن نعرف أنّ لكل حدث زماناً ومكاناً، وأنّ زمان هذا الحدث يوم القيامة، ومكان هذا الحدث في ساحة المشهد والحشر، والحق تعالى هو خالق كلّ زمان وكلّ مكان، وله أن يتحدث في أي أمر بأي صيغة شاء، سواء أكانت صيغة الماضي أم الحاضر أم المستقبل؛ فالحق قد أوجد كل شيء من ماضٍ وحاضر ومستقبل، وبيده أمر كل ما خلق ومن خلق. وذلك أمرٌ مختلف عن حالة الحادث العارض وهو الإنسان، فالحق تقدست أسماؤه وصفاته أزلي قيوم، أما بالنسبة للإنسان فإن الأمر مختلف، وأن الزمن بالنسبة لأفعالنا واحد من ثلاثة:
– الماضٍ: وهو أن يكون الحدث قد وقع قبل أن أتكلم مثل قولي: قابلني زيد، ومعنى ذلك: أن الفعل قد تم وصار مُحققاً.
– أما الحاضر: أي أنّ يكون الحدث في حالة وقوعه الآن، مثل قول يقابلني فلان، ومعنى أن العين ترى فلان الآن.
– أما المستقبل: أي أن الحادث سوف يقع، كقولي، سيُقابلني فلان، وهذا الزمن المستقبل لا يملك الإنسان فيه أن يحدث منه الحدث، ولا يملك ألا يقع أمر على الإنسان الذي سوف يُقابلهُ قد يمنعهُ من إتمام الحدث، ولا يملك الإنسان أنّ يظلُ السبب قائماً. إذن، فمع المستقبل لا يصح للإنسان أن يحكم بشيء؛ لأنهُ لا يملك أي عنصر من عناصر الحدث، فالذي يملك ذلك كلهُ هو الله تعالى ولذلك يأمرنا الله عندما نعزم على فعل أمرٍ أن نقول: “وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا – إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ“.
فالله تعالى عندما يذكر عيسى عليه السلام في أي موضع؛ فإنه ينسبه لأمهِ: “وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءأنت قُلت للناسِ اتخذوني وأمي إلهين من دُونِ الله” ونعرفُ أن السؤال المسئول، مثل قول القائل: أقابلك فلان أمس؟ وإما ليَقرُ المسئول بما يعلمهُ السائل.
معنى آية “وقِفوهم إنّهم مسئولون”:
وقد حاول بعض المستشرقين أن يقولوا: إن هناك تناقضاً في القرآن، والعياذ بالله، واستندوا في ذلك إلى قول الحق: “وقِفوهم إنّهم مسئولون” الصافات:24. أي أن الحق يُقرر أن كل كائن مسئول عما يفعل ويُعتقد، ولكن الله يقول في موضع آخر: “فيومئذٍ لا يُسَلُ عن ذنبه إنسٌ ولا جان” الرحمن:39. فهل معنى ذلك أنهم لن يُسألوا؟ لا سوف يُسألون؛ ليقرروا ما فعلوه، لا ليعلم الله منهم ما فعلوه، فهو تعالى عليم بكلّ شي، وهؤلاء المستشروقون لا يعلمون أن السؤال يرد عند العرب على وجهين وهما: وجهٌ ليُعلم السائل، والوجه الآخر ليُقرر المسئول، وسؤال الله تعالى للناس يوم القيامة؛ ليقرروا ما فعلوه وما كان منهم؛ لأن الإقرار سيدُ الأدلة، وليس سؤال الله تعالى سؤال من يرغب في أن يعلم؛ لأنه تعالى عليمٌ بكلّ شيء والإنسان عليه أن يحتفظ بالمقام الذي وضعهُ فيه ربّه، وكذلك كان عيسى ابن مريم عليه السلام.
وكذلك يكون سؤال الله لعيسى عليه السلام، إنه لتقريع من قالوا عن عيسى عليه السلام ما لم يُبلّغهم إياه، إنّ عيسى عليه السلام لم يُبلغهم أن يتخذوه هو وأمهُ إلهين من دون الله؛ لأن عيسى ابن مريم إنما بلّغ ما أوحى له ربه فقط، ولهذا تأتي إجابة عيسى عليه السلام ردّاً على هذه الافتراءات من الاتباع: “قال سُبحانك ما يكونُ لي أنّ أقول ما ليس بحقٍ” المائدة:116.
وحين نسمع “سُبحانك” لنعرف أنها إجمال التنزيه لله تعالى، وهو تنزيه أن يُشابهه خلق من خلق الله، فالله تُقدس اسمهُ وجود، وللإنسانِ وجود، ولكن إياك أن تقول أيها الإنسان: إنّ وجودك كوجود الله تعالى؛ لأن وجود الله تعالى ذاتي، ووجود الإنسان غير ذاتي.
وأن كل ما في الإنسان هو موهوبٌ من الله تعالى، وكذلك فليس غناك كغنى الله تعالى، ولا قدرتك كقدرة الله تعالى، ولا أي صفةٍ من صفاتك مثل صفات الله تعالى؛ لأنهُ سبحانه وتعالى لهُ مُطلق القدرةِ والقوة، إنّ كلّ شيءٍ يتعلقُ بالله في نطاق سبحانه وتعالى، وكذلك يكون تنزيهُ عيسى لربهِ وخالقهِ: “سُبحانك ما يكونُ لي أنّ أقول ما ليس لي بحقٍ” إنّ عيسى عليه السلام يعلمُ أن الرسول المصطفى من الله تعالى، ليس له أنّ يقول: إنهُ إلهٌ، وفي هذا القول تقريع لمن ادعى على عيسى عليه السلام مثل هذا القول، ورد عيسى عليه السلام على ذلك بقضية متفق عليها فقال لربه: “إنّ كنتُ قُلتُهُ فقد عَلِمتهُ”.
إنّ الكل متفق على أن الله تعالى يعلمُ كل ما بَدّرَ من العباد من سلوك وأقوال وأفعال، والكل يعلمُ تنزيه الله تعالى على أن يخفى عليه شيء، والكل يعلم أن الله تعالى يعلمُ خفايا الصدور، يُخبرا عيسى عليه السلام بذلك: “تعلمُ ما في نفسي ولا أعلمُ ما في نفسك” إنّ عيسى عليه السلام يُقرر أن الحق تعالى العليم بكلّ شيءٍ يعرفُ أن ذلك لم يحظر له على بال، وهذه هي العلّة في إيراد ثلاثِ صور في هذه الآية وهما:
الأولى: تنزيه عيسى عليه السلام لربه عزّ وجل بقوله: “سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقٍ”.
والثانية: هي قول عيسى عليه السلام لربه: “إنّ كنتُ قُلتُهُ فقد عَلمتَهُ”.
والثالثة: هي قوله لربه: “تعلمُ ما في نفسي ولا أعلمُ ما في نفسك”.
إذن، فلا شيء من جانب عيسى عليه السلام ولم يقل ذلك، وإنما هو تقريع من الله عزّ وجل لمن قالوا في عيسى عليه السلام وأمهُ غير الحق، ويختم عيسى ابن مريم عليه السلام بقوله: “إنّك أنت علامُ الغيوب” وكلمة “علّام” هذه مبالغة في ذات الحدث، ومبالغة في تكرار الحدث؛ فهو سبحانه وتعالى يعلمُ غيب كل واحد من خلقهِ وغيب كلّ ما في كونه يعلم كل ما كان وما يكون سبحانه؛ لأن الكون كله ملك له.