اختلاف بني إسرائيل على موسى عليه السلام:
قال الله تعالى: “وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ” هود:110. إذن فقد تقدم أمرانِ على ظمير الغائب: موسى، والكتاب، وقال الله تعالى: “وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ” اختلف في من موسى أم في الكتاب؟ نقول: في الإثنين؛ لأن الخلاف في واحد منهما يؤدي إلى خلاف الآخر، فلا يوجد انفصال بين موسى عليه السلام والكتاب؛ لأنه لا تكون مهمة موسى لولا الكتاب الذي أنزل عليه؟ وماذا يكون موسى لو أن الله لم يرسلهُ رسولاً، إذن فهناك أمران يلتقيان وهما:
الأول: أمر الرسالة والرسول في الإصطفاء.
إذن فيهما أمرٌ واحد وليس أمرين؛ لأنه لا يوجد رسولٌ منفصلٌ عن رسالته، فالمنهج والرسول واحد، وقوله تعالى: “ولقد آتينا موسى” هذا هو المذكور الأول الكتاب، وعاد الضمير على الأول، ولذلك لو اختلف في موسى، أهو رسولٌ أم غير رسول؟ وقيل: إنه غير رسول انهدم الكتاب، ولو اختلف في الكتاب هل هو صدق أم كذب؟ وقيل: كذب أي انهدم الرسول؛ إذن فهما ملتقيان، وقال الله تعالى: “ولقد ءاتينا موسى الكتاب” وكان يمكن أن نقول ولقد ءاتيتُ موسى الكتاب؛ لأن الذي آتى موسى الكتاب هو الله، ولكن الله تعالى قال: “ولقد ءاتينا”؛ لأن الفعل يحتاج إلى صفات الكمال في الله وهي متعددة، والكتاب يحتاج إلى حكمة وإلى علم وإلى قدرةٍ وإلى عفو وإلى جبروت وإلى قهر. وغير ذلك من صفات الكمال في الله تعالى.
لقد آتى الله تعالى قوم موسى الكتاب فاختلفوا فيه، فلماذا لم ياخذهم الله كما أخذ قوم نوح وقوم هود، وقوم مدين وقوم عاد؟ ولماذا لم ياخذهم بالعذاب؛ لأنه أجّل لهم العذاب إلى يوم القيامة، فكأنهم ما نجو من عذاب الله بقدرتهم، وإنما نجو من عذاب الله؛ لأن الله جعل للعذابِ أجلاً وهو يوم القيامة، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: “وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ” هود:110.
إذن فالله جعلّ جلاله حكم حكماً بأن يؤجل لهم العذاب، وكان حكمه في الامم السابقة أن يُعجل لهم بالعذاب، فالذين خالفوا دعوة نوح ولوط وصالح وغيرهم، عجلَ لهم العذاب، لكن بدأ من رسالة موسى عليه السلام. فحكم الله تعالى بأنه سيُأجلهم إلى يوم القيامة، هذه هي الكلمة التي سُبقت، والتي قال الله تبارك وتعالى عنها: “وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ” هود:110. وفي شكٍ ممن ماذا؟ من دينهم أم من لقاء ربهم؟ وقال الله تعالى: “وَإِنَّ كُلًّا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ ۚ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” هود:111. إذن فقد كانت الرسل قبل موسى إذا كذبت فنجد أنّ الأمة التي تكذب رسولها يأخذها الله بعذاب من السماء، فاجلّ الله العذاب إلى يوم القيامة، ولا تعتقد أن تأجيل العذاب إلى يوم القيامة بأنهم نجو منه، أو أن الله سينساهم، بل إن كل واحد منهم سيوفى جزاؤه، والثواب لمن أطاع والعقاب لمن عصى وأذنب، ولكنه أمرٌ آتٍ لا محالة له، وإنّ كل واحدٍ من هؤلاء الذين اختلفوا في الكتاب وعصو موسى، سيلقى جزاءه على قدرِ الأعمال والذنوب الذي ارتكبها، فإن تاب وعمل صالحاً فيُجزى أمره يوم القيامة.
هل كل قوم موسى عليه السلام نقضو العهود؟
قال الله تعالى: “قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ” البقرة:136. ولقد قلنا: إنه عندما أخذ موسى عليه السلام الألواح رحمةٌ من الله وفضلٌ لأمةٍ من الأمم، وقال: يارب اجعلها لأمتي، فقال الله هذه لأمةِ محمد، وقال موسى لربهِ: إنّي لأجد في الألواح من يؤمنون بالكتاب الأول، ويؤمنون بالمتاب الآخر فاجعلهم أمتي، فقال: تلك أمةُ محمد، فكأن أمة محمد وحدها التي تؤمن بالكتاب الأول والكتاب الآخر، وغيرها من الأمم يؤمنون ببعض الكتب ويكفرون ببعضها، ويقول الله تعالى: “وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ” الأعراف:159. عندما قال الله تعالى عن قوم موسى: إنهم ينقضون العهود لم يكن هذا الكلام حكماً عاماً؛ لأن الحكم لو كان عاماً لما وجد في أمة موسى عليه السلام من يؤمن برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، ولكن هناك مثلاً “ابن صوريا، وعبد الله بن سلام” وغيرهما من قوم موسى آمنوا برسول الله.