الأمر الذي يبطل به القصر في الصلاة:
إنّ صلاة القصر تُصبح باطلة في حالة العودةِ إلى المكان الذي يُباح فيه القصر عندهُ في حين بداية وقت سفره، سواء كان ذلك المكان وطناً له أو غير وطن؛ ومثل العودة بالفعل نية العودة. وتفصيل ذلك عند المذاهب الأربعة:
ما يبطل به القصر، وبيان الوطن الأصلي وغيره عند الحنفية:
لقد قال الحنفية: أنه إذا عاد المُسافر إلى المكان الذي خرج منه، فإن كان ذلك قبل أن يقطع مقدار مسافة القصر فقد بطلَ سفره، ويُبطلُ أيضاً بمجرد نية العودة، وإن لم يعد. ويتوجب عليه في الحالتين إتمام الصلاة،أما إذا عاد بعد قطع مسافة القصر، فإنه لا يتم إلا إذا عاد بالفعل، فلا يبطل القصر بمجرد نية العودة، ولا بالشروع فيها، ثم إن الوطن عندهم ينقسم إلى قسمين:
– الاول: وطن أصلي، وهو الذي يكون مسقطُ رأس الإنسان ومكان إقامته والذي وُلد فيه أو أن يكون له فيه زوج في عصمتهِ، أو قصدٌ معين يرتزق فيه، وإن لم يولد به، ولم يكن له به زوج.
– الثاني: وهو وطنُ إقامة، وهو المكان الذي يصلحُ للإقامة فيه لفترةٍ تتجاوز “15” يوماً، فأكثر إنّ كان ينوي الإقامة، ثم إن الوطن الأصلي لا يُبطل إلا بمثله، فإذا ولد شخص بأسيوط مثلاً كانت له وطناً أصلياً، فإن خرج منها إلى القاهرة، وتزوج بها أو مكث فيها بقصد الاستقرار والتعيش كانت له وطناً أصلياً كذلك، فإذا سافر من القاهرة إلى أسيوط التي ولد بها وجب عليه قصر الصلاة فيها ما لم ينو المدة التي تقطع القصر؛ لأن أسيوط، وإن كانت وطناً أصلياً له، إلا أنه بطل بمثله وهو القاهرة.
لا يُشترط في بطلان أحدهما بالآخر بأن يكون بينهما مسافةُ القصر، فمثلاً لو وُلد في الواسطي على سبيلُ المثال ثم بعد ذلك ينتقل إلى القاهرة قاصداً الاستقرار فيها، أو تزوج فيها ثم سافر إلى أسيوط، ومرّ في طريقه على الواسطي، أو دخل فيها، فإنهُ يقصر؛ وذلك لأنها وإن كانت وطناً أصلياً، إلا أنه بطل بمثله، وهو القاهرة، وإن لم يكن بينهما مسافة القصر: فلا يُبطل الوطن الأصلي بوطن الإقامة، فلو سافر من مكانِ ولادته أو بلدة زوجه أو مكانِ ارتزاقه إلى جهة ليست كذلك، وأقام بها “15” يوماً، ثم عاد إلى المحل الذي خرج منه،فقد توجب عليه الإتمام وإن لم ينو الإقامة؛ لأن وطن الإقامة لا يبطل الوطن الأصلي؛ أما وطن الإقامة فإنه يُبطل بعدة أمورٍ وهي:
– الوطن الأصلي: فإذا أقام شخصٌ بمكة على سبيل المثال “15”يوماً، ثم بعد ذلك سافر منها إلى مِنى، فتزوج بها، ثم رجع إلى مكة، ففي تلك الحالة فإنه يُتم الصلاة لبطلان وطن الإقامة، وهو مكة، بالوطن الأصلي، وهو مِنى.
– يبطل بمثله: ويكون على سبيل المثال أنّ شخصاً لو سافر مسافة قصر إلى مكانٍ صالح للإقامة، وأقام به “15”يوماً ناوياً، ثم بعد ذلك انتقل عنه إلى مكان آخر وأقام به كذلك، ثم عاد إلى المكان الأول، فقد وجب عليه قصر الصلاة إن لم يَنوِ الإقامة به “15”يوماً؛ لأن وطنُ الإقامة الأول بطل بوطن الإقامة الثاني، ولا يشترط في بطلان وطن الإقامة به خمسة عشر يوماً، لأن وطن الإقامة الأول بطل بوطن الإقامة الأصلي، ولا يشترط في بطلان وطن الإقامة بمثله أن يكون بينهما مسافة قصر، كما تقدم في الوطن الأصلي.
– إنشاء السفر من وطن الإقامة: فلو أقام المُسافر سفر قصر في مكانٍ صالح “15” يوماً فأكثر، ثم بعد ذلك نوى السفر إلى مكان آخر فقد يبطلُ وطن الإقامة بإنشاء السفر منه، فلو عاد إليه ولو لحاجة لا يتم لبطلان كونه وطن إقامة له بإنشاء السفر منه، أما إنشاء السفر من غيره، فإنه لا يبطله إلا بشرطين وهما:
أحدهما: وهو أنّ لا يمر المُسافر وهو في طريقه على وطنِ إقامته، فإذا مرّ عليه لم يُبطل كونه وطن إقامةٍ له.
ثانيهما: وذلك بأن يكون مسافةٌ قصر بين المكان الذي أُنشأ منه السفر وبين وطن الإقامة، فلو كان أقل من ذلك، فإنه لا يبطل؛ لكونهِ وطن إقامة، فمثلاً إذا خرج تاجران، أحدهما من أسيوط، والآخر من جرحا، وأقام الأول بالقاهرة “15” يوماً ناوياً، وأقام الثاني بكفر الزيات، فتصبح هنا القاهرة هي وطن الإقامة الأول، وكفر الزيات هي وطن الإقامة الثاني، وبين القاهرة وكفر الزيات مسافة القصر، فإذا قام كل منهما إلى بنها، ففي هذه الحالة يُتمان؛ لأن بين القاهرة وبنها دون مسافة القصر، وكذلك من كفر الزيات إلى بنها، فإذا أقاما ببنها “15” يوماً بطل وطن إقامة لهما، فإذا قاما من بنها إلى كفر الزيات بقصد إنشاء السفر من كفر الزيات إلى القاهرة؛ فأقاما بكفر الزيات لو يوماً واحداً، ثم قاما إلى القاهرة، فإنهما يُتمان في كفر الزيات؛ وذلك لأن المسافة دون مسافة القصر، وكذلك يُتمان في طريقهما إلى القاهرة إذا مرا على بنها، لأنه وإن كان بين كفر الزيات وبين القاهرة مسافة قصر، إلا أنهما لمرورهما في سفرهما على بنها لم يبطل كونها وطن إقامة لهما؛ لأن وطن الإقامة لا يبطلُ بإنشاء السفر من غيره، وهو كفر الزيات ما دام المسافر يمر عليه، وما دامت المسافة بينه وبين المكان الذي أنشأ السفر منه دون مسافة القصر.
ما يبطل به القصر، وبيان الوطن الأصلي وغيره عند المالكية:
أما رأي المالكية فقد قالوا: إذا سافر الشخص من بلدةٍ يقصدُ بذلك قطع مسافة القصر، ثم عادَ إلى تلك البلدة، فإنّ تلك البلدةُ، إما أن تكون هي بلدهُ الأصليّة، وهي التي نشأ فيها وينتسبُ إليها، وإما أن تكون بلدةٌ أخرى ويريد أن يقيم بها دائماً، وإما أن تكون مكاناً أقام فيه المدة القاطعة لحكم السفر بنية، فإن عادَ إلى بلدتُه الأصلية، أو البلدة التي نوى الإقامة فيها على التأبيد، فإنه يتمُ بمجرد دخوله لها، ولو لم ينو بها الإقامة القاطعة، إلا إذا خرج منها أولاً رافضاً لسكناها، فإن دخوله فيها لا يمنع القصر إلا إذا نوى إقامة بها قاطعة، أو كان بها زوجة بنى بها، وإذا رجع إلى محل الإقامة فدخوله فيه لا يمنع القصر، إلا إذا نوى إقامة المدة المذكورة.
ويكون هذا هو الحُكم في حالة أنهُ وجد في البلدة التي خرج منها. أما حال رجوعه وسيره إلى هذه البلدة فعليه أن ينظر للمسافة، فإن كانت مسافة الرجوع مسافة قصرٍ قصر، وإلا فلا، ومتى كانت مسافة الرجوع أقل من مسافة القصر فقد بطل السفر، وأتم الصلاة في حال رجوعه وحال وجوده بالبلدة مطلقاً، ولو كانت غير بلدته الأصلية، وغير محل الإقامة على التأبيد، وأما إذا كانت بلدته الأصلية أو البلدة التي نوى الإقامة فيها على الدوام في أثناء طريقه، ثم دخلها، فإن مجرد دخوله يقطع حكم السفر ومثل ذلك بلدة الزوجة التي بنى بها وكان غير ناشز، فمجرد دخولها يقطع حكم السفر أيضاً، فإن نوى في أثناء سيره دخول ما ذكر نظر إلى المسافة بين محل النية والبلدة المذكورة وهي بلدته الأصلية، أو بلدة الإقامة على الدوام، أو بلدة الزوجة، فإن كانت مسافة قصر قصر في حال سيره إليها، وإلا فلا، واعتمد بعضهم القصر مطلقاً، ومجرد المرور لا يمنع حكم القصر، كما أن دخول بلدة الزوجة التي لم يدخل لها أو كانت ناشزاً لا يمنعه.
ما يبطل به القصر، وبيان الوطن الأصلي وغيره عند الشافعية:
لقد قال الشافعية: بأنّ الوطن هو المكانُ الذي يقيمُ فيه الشخصُ على طول الوقتِ سواء كان في الصيف أو في الشتاء، وغيره ما ليس كذلك، فإن عادَ إلى وطنه بعد أن سافر منه، فقد انتهى سفره بمجرد وصوله إليه، سواء رجع إليه لحاجةٍ أو لا، وسواء نوى إقامة أربعة أيامٍ به أو لا، ويُقصر في حال رجوعه حتى يصل، وإن رجع إلى غير وطنه فإما أن يكون رجوعه لغير حاجة، أو لا، فإن كان رجوعه لغير حاجة فلا ينتهي سفره إلا بنية إقامة المدة القاطعة قبل وصوله، أو نية الإقامة مطلقاً، بشرط أن ينوي وهو ماكثٌ لا سائر، مستقلٌ لا تابع، وحينئذٍ ينتهي سفره بمجرد الوصول. فإن لم ينو الإقامة المذكورة، فلا ينقطع حكم السفر إلا بأحدِ أمرين وهما:
إقامة المدة المذكورة بالفعل أو النيةِ بعد الوصول، فإذا كان رجوعه لحاجة، وجزم بأنها تقضى في أربعة أيام فقد يكون فقدَ سفره بمجردِ الاستقرار في البلدة والمكث فيها، وحتى وإن لم ينو الإقامة، أما إذا انقطعا علم أنها تقضى فيها، فلا ينقطعُ سفره، ولهُ أن يقصر ما دام في هذه البلدة، هذا إذا لم يتوقع قضاء الحاجة كل وقت، فإن توقع قضاءها كذلك فله القصر لمدة “18”يوماً كاملة، ومثل الرجوع إلى الوطن نيته، فينتهي السفر بمجرد النية، بشرط أن ينوي وهو ماكث غير سائر، وأما نية الرجوع إلى غير وطنه، فينتهي سفره بها إذا كان الرجوع لغير حاجة فإن كان الرجوع المنوي لحاجة فلا ينقطع سفره بذلك، ومثل نية الرجوع التردد فيه.
ما يبطل به القصر، وبيان الوطن الأصلي وغيره عند الحنابلة:
إنّ رأي الحنابلة في هذا الأمر، وهو أن المُسافر إذا رجع إلى وطنه الذي ابتدأ منه أولاً أو نوى الرجوع إليه، فإذا كانت المسافة دون مسافة القصر فقد توجب عليه الإتمام، بمجرد ذلك حتى يفارق وطنه ثانياً أو يعدل عن نية الرجوع؛ ولا يلزمهُ إعادة ما قصره من الصلوات قبل أن يرجع أو ينوي الرجوع، وأنه لا فرق في كل ذلك بين أن يكون رجوعه لحاجة أو للعدول عن السفر بالمرة، وإن كانت المسافة بين وطنه وبين المحل الذي نوى الرجوع فيه قدر مسافة القصر، قصر في حال رجوعه؛ لأنه سفر طويل فيقصر فيه، وإذا مرّ المسافر بوطنه أتم، حتى وإنّ لم يكن له به حاجةً سوى المرور عليه كون أنه في طريقه، ومثلُ ذلك إذا مر ببلدة تزوج فيها، وإن لم تكن وطناً له، فإنه يتم حتى يفارق تلك البلدة.