حكم الطلاق الرجعي في الإسلام:
الطلاق الرجعي: وهو الطلاق الذي يحقُ للزوج أن يُعيد فيه زوجتهِ إلى عِصمتهِ في فترة العدة بدون استئنافِ عقدٍ جديد، وهو ما دون الطلقة الثالثة بالنسبةِ للمدخولِ بها. أمّا الغير مدخول بها فإنّها تُبين منه بمجرد الطلاق ولا يوجد لها عدةٌ تعتدُ بها. فقال الله تعالى: “وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ۚ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” البقرة:228.
وتشتملُ هذه الآية الكريمة على أحكام الطلاق الرجعي، ودلالةُ هذا القول في هذه الآية ضمن المسائل الآتية وهي كما يلي:
أولاً: أنّ المقصود بالطلاق: هو حلّ رابطة الزواج، وأصلهُ الانطلاق والتخلية، فيُقال: ناقة طالق، بمعنى مهملة أي أنّها تُركت في مرعاها بدون قيد ولا راعٍ، فُسميت المرأةُ المُخلّى سبيلها طالقاً نسبة لهذا المعنى. فقال الراغب: إنّ أصلُ الطلاق هو التخليةُ من الوثاق، فيُقال: أطلقت البعير من عِقاله، وطلقتهُ، بمعنى تركتهُ بلا قيد ومنه أستعير: وطلقت المرأة نحو خليتها، فهي طالق، أيّ مخلّاة حِباله النكاح.
ثانياً: والمقصود بالمُطلقات، وهنّ المدخول بهنّ، البالغات من غير الحوامل أو اليائسات؛ لأن غير المخول بها لا عِدة عليها، لقول الله تعالى: “إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ۖ” الأحزاب:49. وعدة الحاملُ هي وضعُ حملها، لقوله تعالى: “وأولاتِ الأحمَالِ أجلّهُنّ أنّ يَضَعنّ حَملّهُنّ” الطلاق:4. أما المرأة التي لا تحيض، ومثلها التي لم يعد الحيض يُطرق بابها لكبر سنها، وتقدر عِدتها بثلاثة شهور، لقول الله تعالى: “وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ” الطلاق:4. إنّ لفظ المُطلقات في هذه الآية هو موضوع لفظ العموم، ويُراد به خصوص المدخول بهنّ، بدليل آية الطلاق السابقة.
ثالثاً: يقول تعالى: “ثلاثةُ قروءٍ” والقرءُ في العُرف هو الحيض وأيضاً يطلق على الطهر، وهو من الألفاظ المُشتركة. وقد اختلف الفقهاء في تعيين المُقصود به في الآيةِ الكريمة على قولين، وهما مذهب مالك والشافعي وقالوا أن المقصود بالإقراء هو الإطهار وأمّا الحنفية والحنابلة، قالوا: عن الإقراء بأنّه الحيض.
وقال ابن قدامة مفسر قول من قال: المقصود بالقرء هو الحيض، لأنّ الذي عهدوه في الشرع الإسلامي بأنّ القرء هو الحيض، فقال عليه الصلاة والسلام: “تُدع الصلاةُ أيام أقرائها” رواه أبو داود. بمعنى أيام حيضها، ولم يعهدُ على لسان الشرع استعمال القرء بمعنى الطهر في موضعٍ ما، فوجبَ أن يُحمل كلامهُ على المعهود في لسانه. وقد رجّحَ ابن القيم القول الثاني، فنصرهُ وأيده.
رابعاً: والحيضةُ التي تُطلق فيها المرأة، ولا تُحسب من عدتها بدون خلاف في ذلك بين أهل العلم؛ لأنّ الله تعالى أمرَ بثلاثة قروءٍ، فأخذ ثلاثةً كاملة، والتي طلق فيها، لم يبقى منها ما تتمُ به مع اثنتين ثلاثةً كاملة فلا يُعتدُ بها، ولأنّ الطلاق حُرم في فترة الحيض؛ وذلك لما فيه من تطويل العِدة عليها. فلو احتسبت بتلك الحيضةِ قرء، كان أقصرُ لِعدتها وأنفعُ لها، فلا يكون مُحرماً. ومن قال أنّ القروء هو الأطهار فقد احتسب لها بالطُهر الذي طلقها فيه قرءاً، فإذا طلقها وبقي من قرئها لحظةً واحدة، حُسبت قرءاً، وهذا رأي من قال بأن القروء هو الإطهار، إلّا الزُهري وحدهُ قال: تعتدُ بثلاثةِ قروءٍ سوى الذي طلقها فيه.
خامساً: لقد اختلف بعض المفسرونِ في المُراد في قوله تعالى: “وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ” البقرة:228. فقال البعض المقصود به هو الحمل. وقال بعضهم: المقصود هو الحيض، أمّا الرأي الصحيح وهو المقصود الحملُ والحيضُ معاً؛ لأنّ الله تعالى جعلَ المرأة أمينةً على رحمها، فقولها فيه مقبول، أي لا سبيل إلى عِلمه إلّا بخبرها، وأنّه لا خلاف بين الأمّةِ أنّ العمل على قولها في دعوى الشغلِ للرحم أو البراءةِ ما لم يُظهر كذبها.
لقد حرّم الله تعالى على المرأةِ أنّ تكتم ما في رَحمها؛ لأنّه يرتبطُ بذلك الأمرِ حقّ الرجعة للرجل وعدم اختلاط الأنسابِ، فلربما ادعت الزوجة بأنّ فترة العِدة انقضت ورحِمها مشغول بحملٍ من زوجها ثم تزوجت، فيؤدي ذلك الأمر إلى اختلاط الأنساب، وربما حرمت الرجل من حقهِ في الرجعة، ولهذا السبب حرّم الله على الزوجة أن تكتم ما في رحمها.
سادساً: قوله تعالى: “ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ”. إنّ هذه الآيةُ الكريمة تخصُ الزوجة المُطلقة رجعيّاً دون المبتوتةِ؛ وذلك لأنّ المبتوتة هي التي ملكت نفسها، وأن معنى “أحقّ” تُلفظ عند تعارض حقين ويُرجحُ أحدهما، فالمقصود هنا حقُ الزوج في فترة التربص “أحق” من حقها بنفسها؛ لأنّها تملكُ نفسها بعد انقضاء عِدتها، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: “الأيم أحقُ بنفسها من وليّها” رواه مسلم.
فالطلاقُ الرجعي يُجيزُ للرجل حق الرجعةِ من غير عقدٍ ومهرٍ جديدين، وأيضاً من غيرِ رضا الزوجة ما دامت المرأةُ في فترة العدّة، أمّا إذا انتهت العدة ولم يُراجعها، فقد بانت منهُ. فقد بيّن الشارعُ بأن للمُطلق حقُ الرجعة بقوله تعالى: “ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ” أي أن زوجها هو الأحقُ بإرجاعهنّ في فترة التربص بالعدّة، وإن كانت الرجعةُ فيها حقاً للرجل؛ فلا يُشترطُ رضا الزوجة ولا عِلمها ولا تحتاجُ أيضاً إلى وليّ.
فقال القرطبي: إنّ العلماء أجمعوا على أنّ الرجل إذا طلق زوجتهُ طلقةً واحدة أو تطليقتين وكان مدخولاً بها، فهو الأحقُ برجعتها مالم تنقضِ عِدتها وإنّ كرهت المرأة. فإنّ لم يُراجعها المُطلق حتى انقضت عِدتها، فهي أحقُ بنفسها، وتُصبحُ أجنبيةً منه، ولا تحلُّ لهُ مرةً أخرى إلّا بخِطبةٍ ونكاحٍ مستأنف بوليٍّ وإشهاد، ليس على سُنّة المُراجعة، وهذا إجماعٌ من العلماء. وأنّ كل من راجع زوجتهُ في العدّة فلا يترتب عليه أي حكم من أحكام النكاح، غير الإشهاد على المُراجعة فحسب، وهذا إجماعٌ من العلماء، بدليل قوله تعالى: “فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ” الطلاق:2. ففي هذه الآية ذكروا الإشهاد في الرجعة ولم يذكرهُ في النكاح ولم يذكرهُ أيضاً في الطلاق.
سابعاً: لقد اختلف العلماء فيما إذا كان الرجل المُطلقُ طلاقاً رجعياً بأن يدخل على مُطلقتهِ، ويشاهدُ شيئاً من مفاتنه، فهل يصحُ لها أن تتزين له، فقال مذهب الحنفية يحقُ لها أن تتزين له وتتطيب وأن تلبس الحُليّ أيضاً. أمّا الإمام مالك فقال:أنّه لا يدخل عليها، ولا يرى شعرها. أمّا الشافعي: المطلقة طلاقاً يملك رجعتها محرمة على مطلقها تحريم المبتوتة حتى يراجعها. وعن سعيد بن المسيب، قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة، فإنّه يستأذن عليها، وتلبس ما شاءت من الثياب، والحلي، فإن لم يكن لهما إلّا بيت واحد، فليجعلا بينهما ستراً، ويسلم إذا دخل عليها، ويشعرها حال دخوله بصوت ونحوه.