مذهب ابن عباس في قصر الصلاة:
لقد روى ابن عباس رضي الله عنه عدةُ رواياتٍ في قصر المُسافر للصلاةِ في حال إقامتهِ وكانت هذه الرواياتُ مختلفة، ففي بعضها القصر من غير تحديد بمدةٍ معينة، وفي بعضها الآخر تحديد مدة القصر بأيامٍ معينة، وسنتحدث عن هذه الراويات والحكم عليها:
-روى ابن أبي شيبة فقال: حدثنا جرير عن مغير عن سماك بن سلمة، عن ابن عباس قال: إن أقمت في بلدٍ خمسة أشهرٍ فأقصر الصلاة. والحكم عليه، جرير هو: ابن عبد الحميد بن قرط الضبي، ثقة صحيح الكتاب. والمغيرة هو: ابن مقسم الضبي، ثقة متقن، إلا أنه كان يدلس ولا سبما عن إبراهيم.
-روى ابن أبي شيبة فقال: حدثنا وكيع، قال: ثنا شعبة، عن أبي التياح الضبعي، عن رجل من عترة يُكنى: أبا المنهال قال: قلت لابن عباس: إني أقيم بالمدينة حولاً لا أشد على سيرٍ قال: صلّ ركعتين. والحكم عليه: أبو التياح: هو يزيد بن حميد الضبعي، ثقة ثبت، كما في التقريب. أو المنهال: وهو عبد الرحمن بن مطعم البناني أبو المنهال المكي. بصري نزل مكة وهو ثقة كما في التقريب.
-روى ابن أبي شيبة فقال: حدثنا وكيع، قال: ثنا المثنى بن سعيد، عن أبي جمرة نصر بن عمران، قال لابن عباس: إنا نُطيل القيام بالغزو بخراصان فكيف ترى؟ فقال: صلّ ركعتين، وإن أقمت عشر سنين. الحكم عليه: رجاله ثقات كما في التقريب.
-روى الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه، أنهُ قال: أقام النبي عليه الصلاة والسلام تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا.
-روى ابن أبي شيبة فقال: حدثنا حفص، عن عاصم، عن عكرمة، عن أبن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقام سبع عشرة يقصر الصلاة، قال: وقال ابن عباس: “من أقام سبع عشرة قصر الصلاة، ومن أكثر من ذلك أتم. الحكم عليه: حفص هو: ابن غياث النخعي أبو عمر الكوفي، ثقة فقيه تغير قليلاً بآخره”.
-روى الطبري عن عمران بن موسى القزاز، حدثنا عبد الوارث بن سعيد، حدثنا ليث، عن مجاهد، أن ابن عباس قال: “إذا قدمت أرضاً لا تدري متى تخرج، فأتم الصلاة، وإذا قلت: أخرج اليوم، أخرج غداً، فاقصر ما بينك وبين عشر، ثم أتمّ الصلاة. والحكم عليه: فيه ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف الحديث”.
-روى الطبري فقال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي حمزة، قال: قلت لابن عباس: ما تطيبُ نفسي أن أصلّي بمكة ركعتين، فقال: تطيبُ نفسك أن تصلي الصبح أربعاً؟ قلت: لا، قال: إنها ليست بقصر، صل ركعتين، وصل بعدها ركعتين. الحكم عليه: محمد بن المثنى بن عبيد العتري الحافظ، ومحمد بن جعفر هو المعروف بغندر، وأبو حمزة هو: نصر بن عمران. ورواة هذا الإسناد هم ثقات.
-روى الطبري فقال: حدثنا ابن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن زائدة بن عمير قال: سألت ابن عباس: كيف أصلي بمكة؟ قال: ركعتين ركعتين. الحكم عليه: زائدة بن عمير الطائي وثقة ابن معين، وبقية رجاله ثقات.
التوفيق بين هذه الروايات:
إنّ هذه الروايات متعارضة؛ لأن الروايات الثلاث الأولى تدلُ على أنّ للمسافر أن يقصر حال إقامتهِ ولو كانت طويلةً. أما الروايتانِ الرابعة والخامسة فإنهما تدلانِ على أن المُسافرُ إذا أقام أكثر من تسعة عشر يوماً أو سبعة عشر يوماً أتم أما إذا كانت كذلك أو أقل من ذلك فإنه يُقصر.
كما إن الروايتين السابعة والثامنة، لم تتعرضا لتحديد مدة الإقامة، بل غاية ما تدلانِ عليه أن على المُسافر أن يقصر وهو بالمصر وهو المصر. ولو صحت الرواية السادسة لكان المصير إليها متعيناً؛ لأنها مشتملةٌ على إيضاح علة القصر، وعلة الإتمام، وعلى ضوئها يمكن الجمع بين الروايات. وذلك بأن تحمل الروايات الثلاث الأولى وكذا الروايتان السابعة والثامنة على من أقام وهو يقول: اليوم أخرج غداً أخرج، ثم يمكث المُدة الطويلة وهو لم يخرج.
أما تحديد مدة القصر فهي لمن يدري متى يخرج، وبهذا تجتمع الروايات، ولا يبقى إلا مسألة واحدةً وهي كم المدة التي إذا أقامها قصر، فبعض الروايات تدلُ على أنها تسعة عشر وبعضها سبعة عشر، وبعضا عشرة، ومردُ هذا الاختلاف يعودُ إلى تعدد إقامة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أقام تسعة عشر يوماً بتبوك، وأقام سبعة عشر يوماً بمكة عام الفتح، كما أقام عشرة أيام عام حجة الوداع، وقصر في هذه المدد المختلفة.
وهذا الجمع وإن كان دليلهُ ضعيفاً إلا أنهُ متعين صيانة لكلام الحبر ابن عباس من التناقض والاضطراب.