أركان الردّة:
وتقسم أركان الردّة إلى قسمين وهما الركن المعنوي والركن المادي.
الركن المادي للردّة:
لابد من توافر هذا الركن وهو المتمثّل في الاعتقاد أو القول أو الفعل الذي يُقبِل عليه المسلم، فلا يتخيل وجود ردّة ما لم يكن هناك اعتقاد أو قول أو فعلٍ يتحقق معه الشبهة التي تؤدي ألى الردة مثل اعتقاده أن هناك خالق للمخلوقاتِ غير الله عز وجل . إذاً فالركن المادي في جريمة الردة يتحقق بأحد الأشكال المذكورة وهي:
1. إنكار وجود الله تعالى:
إن وجود الله تعالى من البديهيات التي لا تحتاج إلى جهدٍ في الاستدلال عليها، فإن جميع المخلوقات العلوية والسفلية، وما يُشاهد منها بدون وسيلة، وما لا يُشاهد مُطلقاً تدل على وجود خالقٍ مدبر، وهو الله تعالى. وقد ألجم القرآن الكريم منذ نزل على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، كل من خالف تلك الفطرة التي كان الرسل يستدلون بما تقربه ولا تنكره على ما يجحده أهلها وفي ذلك الأمر أربع احتمالات:
أ – أن يكون المخلوقون وجدوا من غير مادة مطلقاً، وإنما بالمصادقة.
ب – أو يكونوا أوجدوا أنفسهم.
ج – أو يكونوا أشركوا الله في خلقه.
وجميع هذه الاحتمالات لم يُثبت منها شيء، ولم يبقَ إلا الاحتمال الرابع: وهو أن يكون لهذه المخلوقات خالقٌ مدبر وهو الله. فقال تعالى:” أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ– أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ“الطور:35-36.
2. إنكار أسمائه وصفاته بدونِ تأويل:
ومن أنكر اسماً من أسماء الله تعالى، أو أي صفة من صفاته التي ورد ذكرها في كتابه، أو سنة رسوله الصحيحة، مثل السميع والبصير والرحمن والقدير والمقتدر كالعلم والرحمة، فقد أنكر وجحد ما أثبته الله تعالى لنفسه، فهذا ما يسمّى الكفر بعينه.
3. الإشراك بالله تعالى:
وذلك كأن يعبد معه غيره، كما يفعل المشركون في كل زمان ومكان من الخضوع لآلهتهم، والركوع والسجود لها إلى غير ذلك. فالله تعالى خص نفسهُ بالعبادة فصرفها أو صرف أي نوع من أنواعها لغيره شرك. فقال تعالى: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” الذاريات:56.
4. اعتقاد صدور ظلم منه لعباده:
لقد نفى الله تعالى عن نفسه ذلك في عدة آيات كثيرة من كتابه، فقال تعالى:“ولا يَظلِمُ رَبُكَ أحداً”. وفي الحديث القدسي الصحيح يقول تعالى: “يا عبادي إني حرمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً” شرح النووي على صحيح مسلم.
5. الاستكبار عن عبادته:
قال الله تعالى في غضون هذا الموضوع: “إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ“غافر:60. وعلى هذا فمن امتنع عن الركوع أو السجود لله تعالى تكبيراً وتعاظماً، فصار بذلك كافراً مرتداً، ولا يدخل في اختلاف العلماء في تارك الصلاة تكاسلاً، أيكون كافراً أم غير كافر؟ بل يكفي في كفره امتناعه عن ذلك تكبيراً. ويُشترط في هذا التكبير أن يكون صادراً عن اعتراض على الحكمة الإلهية، فلا يدخل فيه من ترك صلاة الجماعة مثلاً على إمام المسجد.
6. الاستهزاء بأسمائه وصفاته:
وهذا يدل عندما فعل كثيراً من الناس عندما يدعي له أو لغيره، مثل استهزائه به عندما يقول له شفاك الله، أو يسر الله أمرك، أو مثلاً أن يقول لفلان ادع لنا بالهداية أو الشفاء، أو أسأل الله لك النجاح، فيقول الآخر: ايش الله الله هو الله عندك كل شيء أو ما شابه ذلك. فقال تعالى: “قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ– لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ” التوبة:65-66.
7. عدم محبة الله تعالى أو مساواة المخلوق به في المحبة:
فالله تعالى هو الذي خلق الكون، وخلق فيه الإنسان، ويدبرهُ الله أحسن تدبير، ويُسخره للإنسان، وجعله الإنسان ذا عقلٍ وقدرةٍ على استخدام كثير، ممّا خلق الله في مصالحه، فالإنسان هذا إذا انعدمت من قلبه محبة مدبر هذا الكون وخالقه ومُسخره ومعطيه القدرة على الاستفادة منه وهدايته إلى ما ينفعه ويضره. فإذا انعدمت محبة الله من قلب الإنسان، فذلك دليل على انعدام إيمانه.
ومحبة غير الله تعالى تنقسم إلى قسمين:
الأول: تعتبر من عبادته أيضاً، وهي محبة الرسول ومحبة الصالحين من عباده لأجله تعالى، وكذلك الأعمال الصالحة، وهذه المحبة تابعةٌ لمحبة الله، فقال الرسول صلّى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده والناس أجمعين”. اللؤلؤة والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان.
الثاني: وهي المحبة الطبيعية، والتي تحصل عادة من الوالد لولده، أو من الزوج لزوجته أو عكس ذلك، وهي تتغير من ناحية الزيادة والنقصان بحسب الصلة القوية والرضا والغضب، ولا يمكن أن تصل إلى مرتبة محبة الله تعالى أو محبة الرسول عليه الصلاة والسلام.
8. اعتقاد أن لغير الله أن يُشرع للعباد مالم يأذن به الله وفي هذا الأمر عدة مسائل ومنها:
– أنواع الحكم بغير ما أنزل الله، ويتفرع منه عدة أنواع منها: أن يستحيل أن يحكم بغير ما نزلهُ الله، مثل الزنا، وشرب الخمر وقتل النفس التي حرمها الله بغير الحق. وأن يُلغي الحاكم بسلطة الحكومة الحكم بالشريعة الإسلامية، وأن يحلَ محلها الحكم بالقانون الوضعي.
وأن يحكم بغير ما أنزل الله معتقداً أن ما أنزله الله غير صالحٍ لعصره، وأن تلك القوانين التي حكم بها أكثر مناسبةً وأصلح للشؤون الناس من حكم الله تعالى، كمن يتهم الإسلام بالوحشية، لمثال قطعُ يد السارق لقلي من المال، وقتل القاتل المتعمد وغير ذلك.
وأن يحكم بغير ما أنزل الله في جزئية من الجزيئات، وهو يعتقد أنه عاصٍ، وأن الحكم بغير ما أنزل الله محرمٌ، وأن من الواجب هو الحكم بما أنزل الله، ولكنه غلبه هواه لجهة المال أو جاه أو قرابة، ففعل ما فعل، مثل أن يُعطي الحق لغير صاحبه مع أنه يعلم أنه ليس من حقه، وإقامة البرهان عليه.
الركن المعنوي:
لا يكفي لقيام جريمة الردة توافر الركن المادي فقط، بل يجب أن يقترن معه القصد الجنائي، والقصد الجنائي لا يختلف من جريمة لأخرى؛ وذلك لأنه بمعنى آخر هو ارتكاب الجريمة بالنية والاقتناع بها قناعة تامة، وقد يتعجب البعض من هذا المصطلح إلا أننا لو تأملنا قليلاً سنجد بأنه مصطلح صحيح، فتذهب نية الشخص لجريمة ما، مثل جريمة الردة وهي تعدُ ارتكاب لها ولكن بصورة خفية لا يعلمها إلا الله عز وجل، لذلك لم يعاقب المسلمين عليها رحمةً منه بالعباد فأصبحت غير قائمةً إلا بعد أن أصبحت ملموسة، وهذا ما يسمّى بالركن المادي.
ومن رحمة الله بالعباد، أنه لا يعاقب عباده على نواياهم متى كانت النية غير ظاهرة، وفي جريمة الردة اشترط وجود الركنان معاً؛ لأنه قد يصدر الفعل أو القول أو قد يعتقد شخص ما بشيء غير صحيح، ولكن عن جهل منه أو ناسياً أو مخطئاً، فتصبح الردة هنا غير كاملة وغير قائمة، ولعل ما يثبت إيجاب وجود هذا الركن المعنوي وهو أمر الله عز وجل بتوبة المرتد، فإن لم يتب فتقام عليه العقوبة، والتوبةُ هنا هي بسبب أنه قد يكون جاهلاً بالحكم أو ناسياً أو مكره أو غيره من الأمور التي تجاوزها الله عن أمته الإسلامية.