رسالة سليمان عليه السلام إلى بلقيس ملكة سبأ:
قال الله تعالى: “قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ “النمل:29. لقد أخذ الهدهد الكتاب وطار إلى سبأ، وذهب إلى بلقيس، وألقى إليها الكتاب، فلما قرأته قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ” ولكن القران لم يذكر هذا كلهُ للدلاله على أن أوامر سليمان عليه السلام أوامر محوطة بالتنفيذ العاجل؛ ولذلك وصلت إجابة بلقيس في الكلام الذي أمر به الهدهد مباشرة، دون لما حدث من الهدهد بعد صدور الأمر إليه، وكأن الهدهد بعد صدور الأمر عليه، وكأن الهدهد بعد صدور الأمر عليه، نفذ الامر بمنتهى السرعة، فوجدنا كلام بلقيس إلى قومها بعد أن تلقت كتاب سليمان عليه السلام، والملأ هو أعيان القوم وأشرافهم والمستشارون عند الملكة بلقيس، ووصفت كتاب سليمان بأنه “كتابٌ كريم” فهل كانت تسمع عن سُليمان، أم لأن الخطاب بهرها بخطهِ الجميل وورقهِ الراقي وختمهِ الغريب.
وبعد ذلك قالت: “إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ – أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ” النمل:30-31. وهذا يدلُ على أنها كانت تعرفُ حكاية سليمان على أنه ملكٌ ونبي، وانظروا إلى كتاب سليمان وإيجازه الشديد، حيثُ يقول: “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ– أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ” لقد نص الخطاب برقيةٍ موجوزةٍ في كلمة تعلو، أي تتغطرسون وتظنون أنفسكم ملوكاً وتزهون بما عندكم من ملكٍ ولا تستجيبون لدعوتي، فإياكم وهذا التعالى والتكبر؛ مثلما نقول: هي كلمةً واحدة.
لماذا جمعت بلقيس الملأ:
إنّ بلقيس حينما ألقي إليها الخطاب وقرأته، جمعت الملأ وقالت لهم: لقد وصَلني كتاب من سُليمان وأنّ نصهُ كذا وكذا، وبعد ذلك طلبت مشورتهم، وأن يُشيروا عليها بما تفعل، فقالت: “قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ” النمل:32. ومعنى أفتوني أي أعطوني قوةً في الحكم الذي تُصدرونه، فقد سألتهم أنّ يفتوها في أمرها، مع أنّ الأمر ليس أمرَها وحدها، ولكنه أمرهم جميعاً، ولكن المقصود بقولها، أنّ هذا الأمر قبل أن يُخدشُ الرعية، سيخدشها هي أولاً. وقولها: “ما كنتُ قَاطِعةَ أمرٍ حتى تَشهَدُونَ” أي لا أبتُّ في أمرٍ حتى تشهدوا عليه وتحضرون عندي، وهذا يدل على أنها رغمَ مالها وهيمنةٍ وسلطانٍ إلّا أنها شاورت الملأ وأرادت أنّ تسمع رأيهم في هذا الأمر.
وقال الله تعالى: “قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ“ النمل: 33. أي أننا نحن أصحابُ قوةٍ وعندنا شجاعةٌ وعندنا بأس، وعددُنا كبير، وعندنا عددٌ وألآت وجيشاً قوياً، وهذه كلها مظاهر وقوةً، فإنّ كنت تريدين الدخول مع سليمان فنحنُ جاهزون، ونحنُ لا نقول هذا لندفعك للحرب، ولكن الأمر والرأي الأخير لك.
إنّ المرأة كانت عاقلةً، فلم تغترّ بالقوةِ وحذرت قومها من دمار الحرب وآثارها، فردت عليهم بقول الله تعالى: “قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ” النمل:34؛ لأن الذي جاء ليأخذ الملك يريد أن ياخذ المالكين، وينهب كل ما عندهم؛لأنه ساعة يصل إلى مكان القوم لا يضمن أن ينتصر عليهم، فيخرب ما يستطيع تخريبه من ممتلكاتهم ولا يحافظ على شيء إلا بعد أن يضمن استقرارالأمور له.
وقال الله تعالى: “وجعلوا أعزةَ أهلِها أذلاء” فهذا كلامٌ صحيح؛ لأننا إذا نظرنا إلى أي حاكمٍ يستولي على الحكم بعد حاكمٍ آخر أو أي نظامٍ يخلفُ نظاماً في الحكم، وتجدُ الإنتقام يكون من الحُكام السابقين وإلصاق شتى التُهمِ بهم من فسادٍ وغيرهِ؛ لأن الحكم الجديد قام على إنقاذهم وبين النظامين لدد وخصومةٌ.
وقوله: “كذلك يفعلون” وهذا الكلام من الله تعالى تأيداً لكلام بلقيس فهي قالت رأيها، والحق سبحانه وتعالى أيدها فيه أي أنها صادقةً في هذا، مما يدلُ على أن الحق سبحانه وتعالى ربّ الخلق أجمعين إذا سمع عبدٍ من عبيدهِ كلمة حق يؤيدهُ فيها، كما ترك الملأ القرار الأخير للملكةِ لتفعل ما تراهُ مناسباً.
لقد بدأ عقلها وفطنتها يعملان، فقالت: إنّ كان ملكاً فإنه سيطمعُ في خيرنا، وإنّ كانَ نبيّاً فلن يأبهَ بهذا الخير، فأنا سأرسلُ له هديةً وهذه الهدية تُناسب سليمان وبلقيس معاً، وهو مَلكٌ وهي ملكةً فلا بدّ أن تكون الهديةُ ثمينةٌ جداً حتى تاخذ بلبَ سليمان، وحتى تُثبت له أنها على جانبٍ كبير من الثراء والغنى والترفِ فقالت لقومها: أن سأرسلُ إليه بهديةِ، فإن كان من أهل الملك والدنيا، سيقبلُ الهدية، وسنعرف انه يريد بعض الخراج والمال، وإنّ ردّ الهدية فهو نبيٌ لا يطمع في شيءٍ مما في أيدينا، وقال الله تعالى على لسانها: “وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ” النمل:35. أي أننا سنرى كيف يُقابلهم وماذا يقولُ لهم، وهذا رأيٌ جميلٌ منها، ودليلٌ على فصاحتها وذكائها، مما جعل القوم يفوضونها في تيسير أمور مملكتهم والمرسلون هم الذين أرسلتهم بالهدية إلى سليمان عليه السلام.