يوم الحديبية:
يقول الله تعالى في تحريم القتال في البيت الحرام: “وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ” البقرة:191.
حين تأتي شهور التحريم، أو يأتي مكانها يستريح المسلمون من الحرب، فيذكرون أهمية الصلح ويتخلصون من أسباب النزاع فيما بينهم من غير حرب وأجواء الحرب، فإن بعد الحرب يسود شعور السلام والأمن والحياة الهادئة ويملأ الحياة تصالح وفض النزاعات بالأساليب السليمة.
لقد دار بين المسلمين والمشركين يوم يسمى بيوم الحديبية، وهو أن الكفار صدّوا المسلمين عن بيت الله تعالى وهم على مدّ البصر منه، فاغتاظ المسلمون لذلك وكان يقترح بعضهم بأن يدخل مكة المكرمة رغمًا عنهم، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام سرّ بينه وبين ربه تعالى، فخضع لشروطهم وقام بعقد صلح معهم ويسمى “صلح الحديبية” الذي ثار حفيظة الصحابة وعلى مقدمتهم عمر بن الخطاب، فقال للنبي عليه الصلاة والسلام: “يا رسول الله؟ ألسنا نحن على الحق، فقال عليه الصلاة والسلام بلى، وقال: أليسوا على باطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعطي الدنيّة في ديننا” أخرجه البخاري. ومن قواعد هذا الصلح أنه إذا أسلم كافر ودخل في صفوف المسلمين يرده سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وإذا ذهب مسلم إليهم لا يردونه إلى المسلمين.
موقف أم سلمة من صلح الحديبية:
لقد كان للسيدة أم سلمة رضوان الله عنها موقف عظيم في هذه الشدة، ورأيٌ حكيم ردّ آراء الرجال إلى إلى صوابهم وهذا ما هو متأمل من أي امرأةٍ في الإسلام ويُردّ به على المتشددين لحقوق المرأة، فلما عاد النبي عليه الصلاة والسلام إلى فُسطاطه غاضبًا قال لأم سلمة: “هلك المسلمون يا أم سلمة، لقد أمرتهم فلم يمتثلوا” أخرجه البخاري، أي أنه طلب منهم العودة دون تأدية مناسك العمرة هذه السنة.
وعندما تحدثت السيدة أم سلمة قالت: يا رسول الله، إنهم مكروبون، فقد مُنعوا عن بيت الله الحرام وهم على مقربةٍ منه، لكن اذهب يا رسول الله إلى ما أمرك الله به وافعله، فإذا رأوك فعلته علموا أن الأمر عزيمة أي لا عودة فيها، وبالفعل أخذ النبي عليه الصلاة والسلام بتلك النصيحة، وذهب وحلق وذبح هَديه وقام الناس بالفعل مثله وانتهى الأمر هنا.
ولكن قبل العودة إلى المدينة أتت مشيئة الله أن يخبرهم بالحكمة في قبول النبي عليه الصلاة والسلام لشروط المشركين بالرغم أنها شروط معقدة غير عادلة وظالمة وهي كما يلي:
- أن يعترفوا بالنبي عليه الصلاة والسلام ومكانته ومنزلته وأن يكون متساويًا معهم في هذا الصلح وتلك المعاهدة؛ لأن هذا الأمر مكسب في حدّ ذاته.
- قام الطرفان بالاتفاق على توقف القتال فيما بينهم لبعض سنوات، فهذه الفرصة منحت المسلمين فرصة لكي يتفرغوا لاستقبال الجمع الغفير ونشر دين التوحيد.
- كان لدى النبي عليه الصلاة والسلام إمكانية أن يدخلوا مكة بالقوة عن أهلها، وكان أيضًا عند المسلمين القدرة أن يقاتلوهم جميعهم، لكن ماذا سيكون موقف المؤمنين من أهل مكة والذين كانوا يخفون إيمانهم ولا يعرفه أحد، فقال تعالى: “هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ۚ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا” الفتح:25.
وبعدها قال الله تعالى عن المسجد الحرام: “الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ” الحج: 25. أي أنه جعله للجميع بدون استثناء سواء كان المقيم أو صاحب البلد أو القادم إليها من خارج مكة، أي أن هذين النوعان متساويان مع بعضهما.
وشملت الآية الذين يحجزون عدة أماكن لوحدهم ولحسابهم في بيت الله تعالى بالأخص وفي بيوت الله عامة، فيجب أن يهونوا على أنفسهم، فالمكان محجوز عند ربهم لمن سبق، لا لكل واحد يضع سجادته ويشغل بها المكان، ودلّت أيضًا هذه الآية الكريمة على أنه لا يجوز تأجير بيوت في مكة، فمن حلّ على تلك البيوت يسكنها بدون أجرة حتى يتعادل المقيم والغريب.