ما هي قصة مائدة السماء التي ذكرت في قصة عيسى عليه السلام؟

اقرأ في هذا المقال


قصة مائدة السماء التي ذكرت في قصة عيسى عليه السلام:

قال الله تعالى: “ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” المائدة:112.
كأن عيسى عليه السلام قد قال للحواريين: عليكم بتقوى الله عزّ وجل فلا تسألوه هذه الآية؛ لأنكم ما دمتم أعلنتم الإيمان فأنتم لا تقترحون على الله آية لإثبات صدق رسوله، وحسبكم ما أعطاه الله لي من آيات لصدق رسالتي؛ إذ عليكم أن تلزموا أنفسكم بالمنهج الذي أعلنتم إيمانكم به ولكنّ الحواريين أجابوا: “نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ” المائدة:113.
فكأنهم أرادوا أن يتشبهوا بإبراهيم عليه السلام، وهو خليل الرحمن عليه السلام، عندما سأل الله عزّ وجل عن كيفية إحياء الموتى؛ ليطمئن قلبهُ لقد آمنوا بعلمِ اليقين، ويريدون الآن الانتقال إلى عينُ اليقين، لذلك سألوا عن المائدة التي صارت من بعد ذلك حقيقةً واضحةً، وهكذا نعرفُ أنّ هناك فارقاً بين أن يؤمن الإنسان لذاتهِ، وبين أن يشهد بالإيمان عند غيره، ويقول تعالى عن استجابة عيسى عليه السلام لطلبِ الحواريين: “قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ ۖ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ” المائدة:114.
وقول الله تعالى لآية “مائدةً من السماء” لا يعني أن هناك موائد منصوبةٍ في الأرض؛ ذلك أنّ الكون كلهُ مائدة فيها من الخير الكثير، والإنسان منا عندما يكدُ ويكدح ويستخرج من الأرض الزرع ويرعى أنعامهُ، فإنهُ يأتي إلى زوجه وأولادهِ بمخزونٍ قد يكفيهم لمدة عامٍ من دقيق وأرزٍ وعسلٍ وسكر وزيت، وقد تأتي الزوجة بشيءٍ من الطير فتذبحهُ وتطهو معه الخضروات.
إذن فإن الكون كلهُ مائدة الله المنصوبةِ التي يأخذ منها كل إنسان على قدر عملهِ، وكلمةُ “مائدةٍ” لا تُطلق إلا على الخِوان وعليه طعام، أما إنّ كانت بغير طعامٍ فنُطلق عليها، خِواناً؛ لأن المائدة مأخوذةً من مادة الميم والألف والدال، لا وكيف أن المائدةُ تميد أي تضطرب من كثرة ما عليها من أشياء أو هي تُعطي مما عليها من أشياء، وصارت هذه المائدةُ عيداً أي يوماً يحبُ الناس أن يعود عليهم مثلهُ؛ لأنهم يسرون به، فالعيدُ هو ما يعود علينا بالخير وبما يسر، وقد توقف العلماء عند قول الله تعالى: “هل يستطيعُ ربك” وتساءلوا: كيف كان هذا القول وخصوصاً أن معناهُ الظاهري: أيقدرُ ربك؟ وكيف للحواريين أن يقولوا ذلك على الرغم من أنهم أشهدوا عيسى عليه السلام بأنهم مسلمون.
قال تعالى: “قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ” المائدة:113. فقد طلبوا مائدةً من السماء وقدموا الرغبة في الأكل والطعام على ضرورة التصديق الإيماني الجازم، ولنا أن نرى اختلاف قولهم في هذه المائدةِ عن قول عيسى عليه السلام ابن مريم عليها السلام لما سألَ ربهُ هذه الآيةَ قال تعالى: “قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ ۖ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ” المائدة:114.

لماذا طلب عيسى عليه السلام أن تكون هذه المائدة عيداً؟

قول سيدنا عيسى عليه السلام هو قولٌ ممتلئ بجميع المعاني القيمةِ، فإنه يطلب بأن تكون المائدة عيداً يفرحُ به الأولون والآخرون، وهي آيةً من الحق سبحانهُ وتعالى ويعترفُ بفضلهِ ربوبية الرازق ويعترفُ بامتنان أن الله تعالى هو خير الرازقين، وأن المقارنة بين قول الحواريين وقول عيسى عليه السلام أنها تدلنا على الفارق بين إيمان المُبلغ عن الله وهو عيسى عليه السلام، وإنما الذين تلقوا البلاغ عنهم وهم الحواريون، إن إيمان عيسى عليه السلام هو الإيمان القوي الناضج، وإيمانُ الحواريين إيمان إيمان لا يرقى لإيمان عسى عليه السلام، ولقد كانت قوة إيمان عيسى عليه السلام نابعةً من أنهُ يتلقى عن الله تعالى مباشرةً.

هل آمن الحواريين بالبلاغ عن الله تعالى؟

صحيح أن الحواريين آمنوا بالبلاغ عن الله عزّ وجل، وثم ذلك بواسطةِ عبدهُ ورسولهُ عيسى عليه السلام، ولذلك يعلو الرسول عن المؤمنين ببلاغهِ؛ ولذلك صحيحُ عيسى عليه السلام طلبهم من الله تعالى وهو يدعو ربهُ، إنهُ رسولٌ مصطفى مُجتبى؛ لذلك يضعُ الأمور في نصابها ويقول: “اللهم ربّنا” وكلمة: “اللهم” فهي في الأصل “يالله” ولكن عندما كثر النداء بها حذفنا منها حرف النداء وعوضنا عنه عنه بميم في آخرها، فصارت “اللهم” وكان هذا اللفظ تتهيأُ به نفسُ الإنسانِ لمناجاة الله تعالى في تقديسٍ وثقةٍ في أن الحقَ دائماً يستجيبُ لعبدهِ، وهو نداءٌ يقوم على حب العبد لمولاهُ، فلا يُوسط بينهُ وبين اسم ربه أي واسطةٍ حتى وإنّ كانت هذه الواسطةُ حرفاً من حروف النداء. وعلينا أن نلاحظ عيسى عليه السلام قد قدمَ كلام الله بصفةٍ الألوهيةِ، إنه كنبيٌ مرسلُ يعلمُ تجليات صفة الله تعالى.

بماذا ألزم عيسى عليه السلام نفسه؟

لقد ألزم عيسى عليه السلام نفسهُ بنداء الألوهيةِ أولاً؛ معترفاً بالعبوديةِ لله تعالى ملتزماً بالتكليف القادم منه، ثم بعد ذلك جاء نداء الربوبية، فيا من أنزل علينا التكليف ويا من تتولى تربيتنا، فنحنُ ندعوك أن تُنزل علينا مائدةً من السماء.
وألزم أيضاً عيسى عليه السلام نفسهُ بالعبودية، وأخذ نداءهُ من زوايةِ القيم ثم من الزاويةِ الماديةِ وهي الرزق. وقد قدم الحواريون بشريتهم فطلبوا من المائدة الأكل والطعام، وقدّم عيسى ابن مريم عليه السلام بصفائيةِ اختياره رسولاً القيم على الطعام. فصيحٌ أن الرازق يمس الأكل، ولكن الرازق ليس كلهُ أكلاً، فهو كلُ شيءٍ يُحتاج إليه ويُنتفعُ به، فالأكلُ رزق والشرب رزق والملبس رزق والعلم رزق والحلم رزق، والهداية رزق وكلُ شيءٍ يُنتفعُ به هو رزق من عند الله، ولذلك جاء عيسى بالكلمة العامة التي يدخل فيها الأكل وتتسعُ لغيره.
لقد أجاب الله تعالى دعاء عيسى عليه السلام، فقال تعالى: “قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ” المائدة:115. وحين يقول تعالى: “إنّي” فهو يستخدم نون الإفراد، ونعلمُ أن هناك أسلوبين لحديث الله سبحانه وتعالى عن نفسهِ، فحين يتحدث الله عن وحدانيتهِ يأتي بنون الإفراد فيقول: “إني أنّا الله”.
إنّ محمداً عليه الصلاة والسلام كان رحيماً بقومهِ، لذلك لم يطلب من الحق آياتٍ غير التي أنزلها الله عليه، وعيسى عليه السلام دعا الله بأدبٍ الرسل بأن يُنزل المائدة، واختلف العلماء أأنزلَ الحق سبحانه وتعالى المائدة أم لم يُنزلها، فهناك تمسكوا بقوله تعالى: “قال الله إنّي مُنزلها” وهناك من قالوا: إن الحق سبحانه وضع شرطاً لنزول المائدة وهو إنزال العذاب إن لم يؤمنوا، فتراجعوا عن طلب إنزال المائدة، ولذلك لم يُنزل الحق تلك المائدة، ومن قالوا بنزول المائدة اختلفوا في مواصفاتها، فقيل: إن المائدة نزلت وعليها سمكةً مشويةً من غير فلوس ولا شوكٍ فيها؛ ذلك أنها مائدةً من السماء ومعها خمسةُ أرغفةٍ وعلى كلّ رغيف شيءٌ مما يعرفون، رغيف عليه عسل والآخر زيتون والثالث عليه سمنٌ والرابع عليه جبن والخامسُ عليه قديد.


شارك المقالة: