كيفية علاج الآيات لجريمة قوم لوط عليه السلام:
لقد اتبعت الآيات القرآنية طريقة محكمة في علاج جريمة قوم لوم ، لتؤدي الهدف والغاية التي سيقت لأجله، ومن شدة شناعتها وتفردها في العالمين بينت الآيات سرد الأحداث، واضعة خطة الوقاية والعلاج، مبينة الأهداف العُليا التي ذكرت القصة من أجلها بعيدةً عن عنصر التشويق والإثارة التي تُساق القصص لأجلهِ فقط ومن أساليب الآيات في العلاج هي ما يلي:
- المقدمة المحكمة البديعة التي تتفق مع مقام قصة لوط:
إنّ قصة لوط هي قصةُ جريمةٍ بشعة لذا لم يذكرها مجرداً، ولا لفظاً، وإنما مهّد لذكرها بتقديم النصيحة قبلها، ليهيّيء القارئ لاستقبال هذا الخبر حول فعل هؤلاء القوم، حتى لا يصدم مسامعهُ بشكل مُستهجنٌ كريهٍ على نفسه دون مقدمات، وإنما قدّم النصيحة أولاً، ثم ذكر فعل الجريمة الحادث من هؤلاء القوم وفي ذلك قال تعالى: “كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ – إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ –إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ – فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ” الشعراء:160-162. ثم يُشرع بعد ذلك في بيان فعلهم القبيح على هيئة سؤال استنكاري في قوله تعالى:”أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ – وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ” الشعراء:165-166. - الترتيب المنطقي في سرد القصة:
أن تبدأ بداية تتسقُ مع المضمون الموجود في داخل القصة، كما تتناسب مع النهاية التي تريد أن تصل إليها، حيثُ بأ بيان تكذيب هؤلاء القوم في بيان قوله تعالى: “كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ” الشعراء:160. ومن ثم بيانُ موعظةِ لوط عليه السلام لهم: “إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ” الشعراء:161. ويزيدُ في أسلوب الإقناع لهم ولغيرهم أنّ أجرهُ على الله ربّ العالمين، وليس له مصلحة شخصية، فقال تعالى: “وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ” الشعراء:164.
وحتى لا يكون النقد الهدام يذكرهم بالبديل المحلل شرعاً، والمشتهى طبعاً فيقول تعالى مباشر: “وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ“الشعراء:166. ويُوضح لهم جريمتهم مقرراً ذلك بقوله تعالى: “قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ” الشعراء:167. وثم بعد ذلك يدور الحوار بينهم وبينه مهددين إياه بالإخراج فيقول تعالى: “قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ” الشعراء:167. فيُجيبهم في حزمس وعزم: “قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ” الشعراء:168. مبيناً البغض الشديد لعملهم، ثم يدعو ربه بالنجاة، وتبين القصة جزاء هؤلاء الظالمين بقوله تعالى: “ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ –وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا ۖ فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ” الشعراء:172-173.
لقد ورد في قصة لوط عليه السلام ألفاظٌ تدل على الموعظة والتحذير مثل قوله تعالى: “”إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ” الشعراء:161. ومثل :”فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ” الشعراء:162 ومثل قوله عالى:”وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ“الشعراء:166. على الرغم من كون القصة تتحدث عن جريمة إلّا أنها تلتزم الوعظ والتذكير بالله. - الأسلوب الوقور في التعبير عن الجريمة، وبيان كراهية النبي لها:
وذلك بأنّ عبّر عن جوهر الجريمة في صورة تساؤلٍ يحملُ الدهشةِ والتعجب وبلفظِ مستقيم، ومهذب لا يخجل إنسن من ذكره، ولا من التحدث به ولا من حكايته وتوضيحهِ ولو لأولاده حيث يقول الله تعالى: “أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ” فقد استعمل الكناية من الفعل ويُبين لهم أنهم أول من أتى بهذه الفعلةِ من العالمين، كما استخدم الأسلوب الراقي والوقور في بيان كراهيته لفعلهم كقوله: “”قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ“. - عرض إصرارهم على الجريمة:
إن منذ بداية القصة إلى نهايتها ما يُقنع باستحقاقهم لما نالوهُ من العذاب الشديد، فهم في البداية قد كذبوا، ثم هم يبكتون النبي ويهددونه في ذات الوقت كقوله تعالى:””وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ“. وهم يخاطبونه وكأنه هو المجرم والمعتدي عليهم، ثم يُبين لهم تعديهم على كلّ شيء. - عرض أسلوب قصة الجريمة بأسلوب لا يغري بها:
بل ينفرُ منها؛ لأن القصة القرآنية التي عرضت هذه الجريمة لم تبرر مسلكها، ولم تعرضها بأسلوب يُثير الخيال، ولا يُغري بالتفكير فيها مطلقاً رغم تكرار ورودها في القرآن الكريم إلّا أنها ترد في كل مرةٍ بصورةٍ تبني بشاعتها، وتُفرز منها، فهم تركوا ما يشتهي، واتجهوا إلى ما لا يشتهي. فقال تعالى: “وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ“الشعراء:166.
وفي قوله تعالى: “وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ۚ قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ۖ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ” هود:78. فأرمهم بالحلال ونهاهم عن الحرام ولكنهم أبو ذلك فقال تعالى: “قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ” هود:79. وفي قوله تعالى: “أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ” النمل:55. ثم وصفهُ لفعلهم بأنهم مسرفون وجاهلون، ثم ينتقدون نبيهم لوط عليه السلام وأهل بيته بأنهم: “وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ” الإعراف:82. وبذلك فنجدُ القصة لم تعرض الجريمة بأسلوب يُبرر ارتكابها، ولا يُغري بفعلها، ولا يُثير الخيال، بل ينفرُ منها، ويجعل الفطرة تتقزز منها. - بيان العقوبة التي نزلت بهم في ألفاظ تدلُ على شدّة العذاب والنكال:
ليكون ذلك رادعاً لهم، ولغيرهم من المجرمين، حيثُ يقول تعالى: “وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ” الإعراف:82. وفي آيةٍ أخرى، فقد استحقوا الدمار والإبادة لشدة جرمهم وانحرافهم عن الفطرة بعدما رفضوا العودة إلى رُكب الحياة وسنة الفطر. - استخدام أسلوب التعقيب:
إنّ تعقيب الآيات على ما نزل على هؤلاء القوم؛ لكونه زاجراً وردعاً لمن تسول له نفسه الوقوع في مثل هذا الإثم بقوله تعالى: “إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ” الشعراء:67 وقوله تعالى تعالى: “مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ ۖ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ” هود:83. فنجدُ الأمر في قصة لوط مختلفاً؛ لأن المجرم حكم عليه بالإعدام، فكيف يتوب؟ ةلكن تمشياً مع أسلوب الرحمة نجد القصة هنا تذكر باب العبرة، وتجعل ما نزل بهم آية لغيرهم، وهذا يدل على اتساق الأسلوب القرآن الكريمي مهما اختلفت المواقف والقصص، إلّا أنّ الأسلوب يلتزم ذات الطريقة دون تناقض؛ إذ يجب أن يتسم أسلوب قصة الجريمة بالمقدمة المناسبة للمضمون، كما فعلت قصة هذه الجريمة، ويجب أن تتم معالجة القصة للجريمة بالسرد المنطقي والأسلوب المتسلسل المقنع دون إثارة أو ابتذال، ولا تدبير للجريمة، ولا لمسلكها، ودون إثارة للخيال، ولا إلهاب الحماس المراهقين، وإغرائهم بالجريمة، وبيان المجرم في صورة البطل، مما يجعله محبوباً لدى ضعاف النفوس، وأصحاب الضمائر الخربة.