مشاهد الصلاة الخاشعة التي تقر بها العين:
قال الإمام ابن القيم رحمة الله: ومما ينبغي أن يعلم أن الصلاة التي تقر بها العين، ويستريح بها القلب، هي التي تجمع ستة مشاهد وذكر هذه المشاهد رحمة الله وهي على النحو التالي:
1- الإخلاص: وهو أن يكون حاملاً للصلاة، والداعي إليها، ذلك رغبة العبد في الله، ومحبتهُ له، وطلب مرضاته والتقرب منه والتودد إليه والامتثالِ لأوامرهِ؛ بحيث لا يكون الباعث له عليها حظاً من حظوظ الدنيا البتةُ؛ بل يأتي بها ابتغاء وجهه الأعلى: محبةً له وخوفاً من عذابه ورجاءً من مغفرتهِ وثوابه.
2- مشهد الصدق والنصح: وهو أن يُفرغ قلبه فقط لله تعالى في صلاتهِ، وأن يستغلّ جهده أيضاً في إقبالهِ بالصلاة على الله وجمعُ قلبهِ عليه، وإيقامتها على أحسن الوجوه، وأكملها سواء ظاهراً وباطناً؛ فإن الصلاة لها ظاهراً وباطن، فظاهرها الأفعالُ المُشاهدةُ والأقوالُ المسموعة، وباطنها الخشوع
والمُراقبة وتفريغ القلب لله تعالى، وأنّ يُقبل بكليّةٍ على الله فيها بحيثُ لا يلتفتُ بقلبهِ عنه إلا غيره، فهذا بمنزلة الروح لها والأفعال بمنزلة البدن فإذا خلت من الروح فكانت كبدنٍ لا روحَ فيه أفلا يستحي العبدُ أن يواجه سيدهُ في مثل ذلك، ولهذا تُلفُ كما يُلف الثوب الخلق، ويضرب بها وجهُ صاحبها، وتقول، ضيعكَ اللهُ كما ضيعتني. والصلاةُ التي كَمُلَ ظاهرها وباطنها تصعدُ لها نورٌ وبرهان كنور الشمس، حتى تُعرض على الله فيرضاها ويقبلها، وتقول له حفظك الله كما حفظتني.
3- وهو مشهدُ المتابعة والإقتداء: وهو أن يحرص كامل الحرصِ على أن يقتدوا في صلاة بالنبي عليه الصلاة والسلام، ويُصلي كما كان يصلي النبي، ويعرض عما أحدث الناس في الصلاة من الزيادة والنقصان والأوضاع التي لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً منها ولا عن أحدٍ من أصحابه ولا يقفُ عند أقوال المرخصين الذين يقفون مع أقل ما يعتقدون وجوبهُ ويكون غيرهم قد نازعهم في ذلك وأوجبَ ما أسقطوهُ، ولعلَ الأحاديثُ الثابتة والسنة النبوية من جانبه ولا يلتفتون إلى ذلك، ويقولون: نحنُ مقلدون بمذهب فلان وهذا لا يخلص عند الله ولا يكونُ عُذراً لمن تخلفَ عما علمهُ من السنةِ عنده، فإن الله تعالى إنّما أمر في طاعة رسوله واتباعهِ وحده ولم يأمر باتباعِ غيرهِ وإنما يُطاعُ غيره، إذا أمرَ بما أمرَ به الرسول عليه الصلاة والسلام، وكل أحدٍ سوى الرسول عليه الصلاة والسلام فمأخوذ من قوله ومتروك.
إنّ الله سبحانه وتعالى أقسم بنفسه الكريمة أنا لا نؤمن حتى يحكم الرسول فيما شجر بيننا، وننقادُ لحكمه، ونستسلمُ تسليماً، فلا ينفعنا تحكيمُ غيره، والانقياد له، ولا ينجينا من عذاب الله، ولا يقبل منا هذا الجواب إذا سمعنا نداءه سبحانه وتعالى يوم القيامة: “ماذا أجبتم المرسلين”؛ فإنه لا بد أن يسألنا عن ذلك، ويطالبنا بالجواب، قال الله تعالى: “فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين”وقال النبي صلى الله عليه وسلم:”أوحي إلي أنكم بي تفتنون، وعني تسألون” يعني أن المسأله في القبر، فمن انتهت إليه سنةُ الرسول عليه الصلاة والسلام وتركها لقولِ أحدٍ من الناس فسيَردُ يوم القيامةِ ويعلم.
4- وهو مشهد الإحسان أي مشهدُ المراقبة: وهو أن يعبد الله كأنه يراهُ، وهذا المشهد إنما ينشأ من كمال الإيمان بالله تعالى وأسمائهِ وصفاتهِ حتى كأنهُ يرى الله سبحانه وتعالى فوق سماواتهِ مستوياً على عرشه يتكلمُ بامرهِ ونهيهِ ويُدبر أمر الخليفةِ فينزلُ الأمر من عنده ويصعدُ إليه، وتُعرض أعمال العباد وأرواحهم عند الموافاةِ عليه فيشهدُ ذلك كله بقلبهِ ويشهد أسمائهُ وصفاته ويشهدُ قيوماً حيّاً سميعاً بصيراً عزيزاً حكيماً، آمراً ناهياً يُحب ويبغضُ ويرضى ويغضبُ ويفعلُ ما يشاءُ ويحكمُ بما يُريد وهو فوق عرشهِ لا يخفى عليه شيء من أعمالِ العباد ولا أقوالهم ولا باطنهم؛ بل أنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
فقال ابن القيمُ: إن مشهد الإحسان هو أصلُ أعمالُ القلوب جميعها؛ فإنهُ يتوجبُ الحياء والإجلال والتعظيم والخشيةُ والمحبةُ والإنابةُ والتوكل والخضوع لله تعالى، والتذلل، ويقطعُ الوسواس وحديث النفس، ويجمع القلب والتقرب على الله، فقد فحض العبدُ من القرب من الله على قدرِ حظه من مقام الإحسانِ وبحسبهِ تتفاوت الصلاة، حتى إنهُ يكونُ بين صلاة الرجلين من الفضل كما بين السماء والأرض، وقيامهما وركوعهما وسجودهما واحد.
5- وهو مشهدُ المنّةِ: وهو أنّ يشهدُ أن المنّةُ لله سبحانه وتعالى كونَ أن الله أقامهُ في هذا المقام وأهلّهُ له، ووفقه لقيامِ قلبهِ وبدنهِ في خدمتهِ، فلولا الله سبحانه وتعالى لم يكن شيء من ذلك. كما أن الصحابة يحدون بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، فيقولون: والله لولا الله ما اهتدينا ولا صلينا.
6- وهو مشهد التقصير: إنّ العبد لو اجتهد في القيام بالأمرِ غايةَ الإجتهادِ وبذلَ وسعى، فهو مقصرٌ في حق الله؛ لانّ حقّ الله تعالى عليه أعظم، والذي كان ينبغي له أن يُقابل به من الطاعةِ والعبودية والخدمة فوقَ ذلك بكثير، وأن عظمتهِ وجلالهِ سبحانه يقتضي من العبودية ما يليقُ بها، وإذا كان خدم الملوك وعبيدهم يُعاملونهم في خدمتهم بالإجلالِ لهم والتعظيم والإحترامِ والتوقير والحياء والمهابةَ والخِشيةَ والنُصحُ بحيث أنهم يُفرغون قلوبهم وجوارحهم لهم، فمالك الملوك ربّ السماوات والأرض أولى أنّ يُعامل بأضعافِ ذلك.
وإذا شاهدَ العبدُ من نفسهِ أنهُ لم يوفي ربهُ في عبوديتهِ حقهُ ولا قريباً من حقهِ علمَ تقصيرهُ ولم يسعهُ مع ذلك غير الإستغفار والاعتذار من تقصيره وتفريطه، وعدم القيام بما ينبغي له من حقه، وأنه إلى أن يُغفر له العبودية، ويعفو عنه فيها أحوجُ منه إلى أن يطلب منه عليها ثواباً، وهو لو وفّاها حقها كما ينبغي، لكانت مستحقةً عليه بمقتضى العبودية؛ فإن عمل العبد، وخدمتهِ لسيدهِ، مستحقّ عليه بحكمٍ كونه عبدهُ ومملوكهُ، فلو طلب منه الأجرةَ على عملهِ وخدمتهِ لعدّهُ الناس أحمق وأخرق، وهذا وليسَ هو عبدهُ ولا مملوكهُ على الحقيقة من كلّ وجهٍ لله سبحانه، فعلمهُ وخدمتهُ مستحقّ عليه بحكمٍ كونهُ عبدهُ، فإذا أثابهُ عليه كان ذلك مجرد فضلٍ ومنّةً وإحسان إليه، لا يستحقّهُ العبدُ عليه.
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: “يُخرجُ للعبدِ يوم القيامةِ ثلاثة دواوين: ديوانٌ فيهِ حسناتُهُ، وَديوانٌ فيهِ سَسئاتُهُ، وديوانُ النّعمِ التي أنعمَ اللهُ عليهِ بها؛ فيقولُ الرّبُ جلذ جلالهُ لنعمهِ، خُذي حقكِ من حسناتِ عبدي فيَقومُ أصغرها فتستفيدُ حسناتهُ ثم تقولُ: وعِزتك ما استوفيتُ حقي بعدُ، فإذا أراد الله أن يرحم عبدهُ وهبهُ نعمهُ عليه، وغفرَ له سيئاتهِ وضاعفَ لهُ حسناتهُ” أخرجه البزار.
إنّ ملاك هذا الأمرِِ هي أربعةُ أمورٍ ألا وهي: النيّةٌ صحيحةٌ والقوةٌ العالية، يقارنهما رغبةٌ ورهبةٌ. فجميع هذه القواعد الأربعة هي قواعد الشأن، ومهما دخلَ العبدُ من النقص في إيمانه وأحواله وظاهرهِ وباطنهِ، فهو نقصانِ هذه الأربعة أو نقصانِ بعضٍ منها، فليتأملُ الفصيح في هذه الأمور الأربعة وليجعلها سيرةً وسلوكه، ويبني عليها علومهُ وأعمالهُ وأقوالهُ وأحوالهُ، فما نتجَ من نتجٍ فمنها ولا تخلف من تخلف إلا من فقدها.