بدء استحقاق النفقة على الزوج:
اتفق الفقهاء على أن سبب وجوب النفقة هو العقد الصحيح، واتفقوا على أن الزوجة تستحق النفقة بمجرد العقد، إذا استوفت شروطها المتقدمة، فإذا امتنع الزوج عنها رفعته إلى القاضي، فألزمه بها. ولكن في حال تأخّرت الزوجة عن طلب النفقة بعد وجوبها لها بمدة من الزمان، فهل من الممكن أن تُصبح ديناً في ذمة الزوج، وهل يُمكن أن يكون لها أن تطلبها عن المدة السابقة، إذا لم يكن قد قدمها الزوج لها فعلاً؟
ذهب المالكية والشافعية والحنبلية، إلى أن النفقة تُصبح ديناً في ذمة الزوج منذ وجوبها عليه، ولا تبرأ ذمته عنها ما لم يدفعها لها، أو تبرئه الزوجة عنها.
ذهب الحنفية إلى أن النفقة لا تصبح ديناً في ذمة الزوج بمجرد وجوبها لها، ولكن بالتراضي عليها بين الزوجين، أو بقضاء القاضي بها بناء على طلب الزوجة، وعلى هذا فلو سكتت الزوجة عن طلب النفقة سنين بعد العقد، وأنفقت من مال نفسها، ثم طلبت منه النفقة، ورفعته إلى القاضي، لم يقضِ القاضي لها بالنفقة عن المدة السابقة عند الحنفية، ولكن عن الفترة اللاحقة لا غير، إلا أنهم أجازوا للقاضي الحكم لها بشهر فقط عن المدة السابقة، لأن الشهر قد يحتاج إليه للتروي ومحاولة التقاضي، فإذا حكم لها القاضي بالنفقة، أو تراضت عليها مع الزوج، ثبتت في ذمته ديناً من تاريخ ذلك، دون ما قبله.
ثم إن هذا الدَّين عند الحنفية دين ضعيف، لأنه دين فيه معنى الصلة (الهدية) على خلاف الجمهور، فإنه عندهم دين قوي من تاريخ وجوب النفقة لها كما تقدم. وعلى هذا، فإنه لا يسقط عند الجمهور بغير الأداء أو الإبراء. أما عند الحنفية، فإنه يسقط بالأداء والإبراء، كما يسقط من جهة الزوجة بالنشوز، وبالموت من أحد الزوجين، إلا أن هذا الدين يُصبح قوياً عندهم ولا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء بشرطين هما:
الأول: أن يأذن لها القاضي أو الزوج باستدانتها.
الثاني: أن تستدينها فعلاً.
فإن توافر فيها هذان الشرطان معاً، أصبحت في ذمة الزوج ديناً قوياً من تاريخه، ولا تسقط بعد ذلك إلا بالأداء أو الإبراء، إذا لم يتوافرا، أو توافر واحد منهما فقط، بقي الدين ضعيفاً، يسقط بالنشوز والموت.
امتناع الزوج عن الإنفاق:
إذا امتنع الزوج من الإنفاق على زوجته بسبب ما، كالفقر مثلاً، أو بغير سبب، فإن لزوجته بالاتفاق أن تطلب منه أو من القاضي إذنها بالاستدانة لنفقتها، كما أن لها التنفيذ عليه جبراً إذا كان قادراً على الإنفاق وله مال ظاهر، فإذا أذنها القاضي أو الزوج بالاستدانة، ولم تجد من يقرضها، أوجب القاضي على من تجب عليه نفقتها لولا زوجها كالابن والأب أن يقرضها، ثم يَرجع عليها أو على زوجها بما أقرضها من النفقة، فإن رجع عليها رجعت هي على زوجها عند يساره.
المقاصة بدّين النفقة:
إذا كانت الزوجة مدينة للزوج بدين عادي، كقيمة عقار، أو سلعة اشترتها منه ولم تدفع ثمنها، أو اقترضت منه مالاً لبعض أعمالها وتراكم لها في ذمة الزوج مبلغ من النفقة، ثم أراد أي من الزوجين إسقاط الدين الذي عليه في نظير الدين الذي له على الآخر، وهو ما يسمّى “بالمقاصَّة” فهل يجاب إلى طلبه؟
ذهب الجمهور إلى جواز المقاصة بين الزوجين في ذلك، إذا طلبها أحدهما، لأن دين النفقة عندهم دين قوي، فساوى الدين الذي للزوج عليها، فجازت المقاصة.
وذهب الحنفية إلى أن المقاصة إذا طلبها الزوج أجيب إليها حتماً، لأن دينه قوي لا يقل عن دين الزوجة، وإذا طلبتها الزوجة، نظر، فإن كانت الزوجة مأذونة بالاستدانة، واستدانتها فعلاً، أُجيبت إلى طلبها، لأنها دين قوي عندهم في هذه الحال كما تقدم، وإذا لم تكن استدانتها فعلاً، أو لم تكن مأذونة بالاستدانة أصلا، فلا تجاب إلى طلبها المقاصة، إلا إذا رضي الزوج بذلك، لأنها دين ضعيف في هذه الحال عندهم، وشرط المقاصة في الدين تساوي الدينين في القوة.
هذا إذا كان الدين الذي للزوج قد حلّ أجله، فإذا كان مؤجّلاً، لم يجب إلى طلبه المقاصة مطلقاً، لاختلال شرط المقاصة، وهو تعجيل الدينين.
هذا وقد نص المالكية والحنبلية، على أن الزوجة إذا كانت فقيرة تحتاج إلى النفقة لإحياء نفسها، وطلب الزوج منها المقاصة بدينه عليها، لم يجب إلى طلبه إلا برضاها، تقديماً لأحياء النفس على وفاء الدين.