ضياع الأمانة ورفعها من القلوب:
إن وضع الرجل المناسب في المكان المناسب هو عمادُ بقاء الأمةِ وصلاحُ البلادِ والعبادِ ونهضتُ الحضارة، فإذا ضاعت الأمانةُ انقلبت الموازينُ، وفسدت سرائرُ الناس، وتولي مقاليد الامورِ غير الأكفاء في سادة الفوضى، وهذا ما أخبر عن وقوعه النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، وسببُ ضياع الأمانة فسادُ سرائر الناس.
قال حذيفة رضي الله عنه، قال النبي عليه الصلاة والسلام: “إن الأمانة نزلت في جذرِ قلوب الرجال، ثم نزل القرآن، فعلّموا من القرآن وعلموا من السنة”.
ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال عليه الصلاة والسلام: “ينامُ الرجل النومة، فتقبضُ الأمانة من قلبه، فيضلُ أثرها مثل الوكتِ، ثم ينامُ النومة، فتقبضُ الأمانة من قلبهِ، فيضلُ أثرها مثل المجل، كجمرٍ دحرجتهُ على رجلك فنفط، فتراه منتبراً وليس فيه شيء ثم أخذِ حصى فحرجهُ على رجله، فيُصبح الناس يتبايعون لا يكادون أحداً يؤدي الامانة حتى يُقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً. حتى يقال للرجل: ما أجلده؟ ما أظرفه؟ ما أعقلهُ؟ وما في قلبه مِثقالُ حبةٍ من خردل من إيمان”.
الوكتُ: وهو جمعُ الوكتةِ وهو الأثرُ اليسير في الشيء كالنقطةِ فيه، ومعنى الحديث يكون لها أثر ٌ في قلبه.
المجل: وهي عبارة عن قشور رقيقة يجتمع فيها ماء تحت الجلد من أثر العمل تشبه البثر.
فنفط: وكلمة نفط أيّ وَدِمَ وأمتلأ، والمعنى أنه أنذر برفع الأمانة وأن الموصوف بالأمانة يُسلبها حتى يصيرُ خائناً بعد أن كان أميناً.
قال حذيفة: ولقد أتى عليّ زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلماً ليردنهُ على دينه ولئن كان نصرانيّاً أو يهودياً ليردنَه على ساعيه، وأما اليوم فما كنت لأبايعَ منكم إلا فلاناً وفلاناً” متفق عليه. فإذا فسدت سرائر غالبية الناس، ووُكّل الأمرِ لغير أهله، فضاعت الأمانة؛ اقتربت الساعة.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما النبي صلّى الله عليه وسلم في مجلسٍ يُحدث القوم، جاءهُ أعرابي فقال: متى الساعة؟ ومضى الرسول عليه الصلاة والسلام يُحدث. فقال بعض القوم: سمع ما قال، فكره ما قال: وقال بعضهم: بلّ لم يسمع. حتى إذا قضى حديثهُ قال: أين أراه السائلُ عن الساعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله. قال: إذا ضيعت الأمانةُ فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذ وسد الأمر إلى غير أهلهِ فانتظر الساعة”رواه البخاري.
وهذه العلامة منطبقة في واقعنا اليوم تمام الانطباق، وترى كثيراً من المسؤوليات في الوزارات والجامعات، والمناصب في المجتمع التي تتعلق بها مصالح الناس، لا يُعين فيها الأقدار الأصلح، الأكثر أمانة ومراعاةً لمصالح الناس، وإنما يُعيّن فيها من له معرفة بمسؤول كبير أو له مصالح مشتركة وما شابه ذلك، نعم إذا وُسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة.
فإذا ضيّع من يتولى أمرُ الناس الأمانة، والناسُ تُبعاً لمن يتولى أمرهم كانوا مثله في تضييع الأمانة، فصلاحُ حال الولاة صلاحٌ لحال الرعية، وفساده فسادٌ لهم، ثم إن إسناد الأمر إلى غير أهلهِ، دليلٌ واضح على عدم اكتراث الناس بدينهم، حتى أنهم لِيولون أمرهم من لا يهتم بدينه، وهذا إنما يكون عند غلبة الجهل ورفع العلم،.
اتباع سنن الأمم الماضية:
إن من أعظم الفتن التي أبتليّ بها المسلمون هي فتنة التقليد الأعمى، والتشبه المقيتُ بعاداتِ وأخلاق اليهود والنصارى، أو غيرهم من الكافرين، وقد أخبر النبي الكريم عليه الصلاة والسلام بأن فريقاً من أمتهِ سيقلدون الأمم الضالة من اليهود والنصارى في عاداتهم وتقاليدهم وطبائعهم وتَصرفاتهم وحياتهم.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام، لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، فقيل يا رسول الله كفارسٍ والروم. فقال: ومن الناس إلا أولئك”. رواه البخاري.
وقد وقع معظم ما أنذر به النبي عليه الصلاة والسلام، وسيقع بقية ذلك كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لتتبعنّ سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا في جحرِ ضبّ لتبَعتموهم، قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى، قال فمن”.متفق عليه.
قال القاضي عياض رحمه الله: الشبرُ والذراع ودخولُ الحِجر: هو تمثيلٌ للاقتداءِ والتقليد لهم. وتقليد اليهود والنصارى المذموم ليس المقصود به أن نتبادل معهم التجارب العلمية، ونستفيدُ من مخترعاتهم، والتراتيب الإدارية التي يملكونها. ممّا لا يُخالف ديننا وعاداتنا، وإنما التقليدُ المذموم هو أن نقلدهم في لباسهم، وعاداتهم، وكيفية تعاملاتهم الإجتماعية سواء كان من اختلاط ونزع الحجاب، أو أنظمتهم المالية المُخالفة لديننا، مثل الربا والسرقة والزنا والأعمال السيئة وغير ذلك.