أدب الكدية في العصر العباسي

اقرأ في هذا المقال


تميز الأدب في العهد العباسي حيث تطور وازدهر وبرز فيه تنوعاً بأشكال النثر والشعر وظهرت في هذه الفترة إبداعات أدبية وشعرية، ومن هذه الابداعات فن الكدية، لقد تميز في الفترة العباسية العديد من الشعراء والأدباء في هذا الفن وأطلق عليهم في هذا العصر بشعراء وأدباء الكدية، وفي هذا المقال سنوضح مفهوم الكدية، والخلفية التاريخية لأدب الكدية.

الكدية في المفهوم اللغوي والاصطلاحي

الكدية لغة: كدى يشير إلى صلابة الشيء، والكدية قساوة في الأرض ويقال نقَب فَأكدى ويقال أيضاً للشخص الذي يعطي ببذخ، ثم يمتنع عن ذلك فيقال أكدى، أي أنه يشبه المُنقِب الذي ينقب الأرض فَيكدى ويمتنع عن الحفر.

ويقال كدت الأرض تكدوا كدوا أي أن الأرض لم تخرج نباتها، وكدا الزرع أي أنه سيء لم ينبت، والكدية الأرض المرتفعة القاسية والتي تتكون من الطين والحجارة.

والكدية اصطلاحاً: تعني التسول وأخذ المال وهي صنعة السائل، والكدية تتعدى التسول وسؤال الناس إلى الاستحواذ على المبالغ بشتى الوسائل، والمكدين هم مجموعة اتخذت من التسول وسيلة لأخذ المبالغ بالحيلة، ويرجع أصل الاستجداء والتسول إلى ساسان فارس، وكان أيضاً يطلقون على صنعة السائل الشحاذة.

والشحاذة عادة اجتماعية ظهرت في المجتمعات التي قُسمت ثرواتها بشكل متفاوت وغير عادل،  حيث نرى منهم طبقات غنية غنى فاحش، ومنهم طبقة فقيرة جداً، فَهناك طبقة مترفة تعيش في نعيم وترف وثراء وهناك طبقة فقيرة معدمة الحال تعيش في نقص وعوز وعراء.

وتطرق الجاحظ إلى ذكر الكدية والنجلاء في حديثة ويذكر أحد البخلاء فيقول: “وهذا خالد بن يزيد وهو خالويه المكدي كان بلغ في البخل وَالكدية التي لم يبلغها أحد”، ويطيل الجاحظ في الكلام ويذكر وصية خالد بن لولده حيث قال فيها: ” إن هذا المال أجمعه من القصص وَالتكدية” ويقول خالد بن يزيد مستكملاً حديثه: ” أنا لو ذهب مالي لجلسة قاصاً أو طفت في الآفاق كما كنت مكدياً.”

وانتشر المَكديين مع بداية تأسيس الخلافة العباسية بسبب تطور المظاهر الاجتماعية في ذلك العصر وتداخلها في شتى نواحي الحياة، ويستعملون شتى الوسائل التي تمكنهم من الحصول على الأموال من الآخرين ونرى ابن الحجاج يتفاخر بالكدية ونراه يقول فيها:

وقد تبْاهي أمري إلى أن 

بَكَرْتُ من مَنزِلي أَكدِي

ونرى السروجي يوصي ابنه فيقول له: ” ولم أر ما هو بارد المنعم لذيذ المطعم واقي المكسب صافي المشرب إلا الحرفة التي وضع ساسان أساسها ونوع أجناسها، إذ كانت المتجر الذي لا يبور والمنهل الذي لا يعور”.

وبخصوص الأحنف العكبري نرى أن الكدية أصبحت حرفته التي من خلالها يجمع أمواله، وإن العديد من الناس يفعلون نفس فعلته ويتخذون من الكدية مهنة لجمع الأموال ويقول في ذلك:

قد كانت إقطاعي

فَاستعصم الناس بأطباعي

قَنعتُ مُضطراً لضعف القوى

عن نيل ما يدركه الساعي 

وذهب العلماء إلى أن سبب ظهور وانتشار الكدية في الفترة العباسية يعود إلى العديد من العوامل أهمها التفاوت بين فئات المجتمع في ذلك الوقت، حيث توجهت الفئة الفقيرة معدومة الحال إلى أخذ الأموال بأي طريقة كانت.

وكان الشعراء من هذه الطبقة التي ضاقت بهم الحياة ومروا بحياة قلق وحاجة وبؤس وحرمان مما دفعهم إلى وصف هذه الحياة حيث عانوا فيها الكثير، ومثال على هؤلاء الشمقمق نراه يتحدث عن حياته والواقع وكأنه ضرب من الخيال فيقول في ذلك:

فمنزلي الفضاء وسقف بيتي

سماء الله أو قِطع السحاب 

فأنت إذا أردت دخلت بيتي

عَليّ مُسلماً من غير باب

لأني لم أجد مِصراع بابٍ

يكون من السحاب إلى التراب

خلفية تاريخية عن التكسب والكدية في الشعر والأدب

يتحدث جلال الخياط: ” الشعراء ينقسمون إلى فريق رفض أن يمدح، وفريق صدر في أَماديحه عن عاطفة صادقة، وفريق كان المديح عنده نوعاً من الالتزام السياسي أو الديني وهؤلاء لا علاقة لهم بَالشعراء المتكسبين، الذين نافقوا و زيفوا الوقائع وبالغوا كثيراً ليحصلوا على المال، وأصبح المديح والرثاء والهجاء عندهم حرفة فيها يتكسبون وعليها يتوكلون في معيشتهم فكانوا من بائعي المواهب ومشوهي الحقائق.”

ومن هذا الرأي للخياط نلاحظ أن المضامين الشعرية التقليدية وكذلك أسلوب الصياغة لدى الشعراء اختلف عند أمثالهم في الفترة العباسية، وكان يغلب على المضامين الطابع الشعبي ويرى الخياط إلى أن أول شاعر امتهن الكدية في شعره لكسب المال النابغة شريف.

ولكن العلماء ذهبوا إلى أن الأعشى هو أول من اتخذ من الكدية صنعة له في أبياته ونهج نهجه الحطيئة، ونرى أن جرير يتحدث عن الواقع المرير الذي يعاني منه شعراء هذه الفترة وما حلَّ بهم من فقر، ويقول في كلام وجهه لعمر بن عبد العزيز:

وأن عيالي لا فواكه عندهم

وعند ابن سعد سكر وزبيب 

وقد كان ظني بابن سعد سعادة

وما الظن إلا مخطئ ومصيب

ويتحدث إليه أيضاً بقوله:

وهذه الأرامل قد قضت حاجتها

فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر

وقد ظهرت الكَدية في الفئات الاجتماعية في الجاهلية ويطلق عليها في ذلك الوقت بالصعاليك، ولكن هناك اختلاف بين الكدية في الفترة العباسية، وَالصعاليك في الجاهلية، حيث أن المَكدي يطلب المال بذل وخضوع بعكس الصعلوك الذي يستخدم القوة والبطش من أجل الحصول على الأموال.

وصور لنا بن الورد صورة الصعلوك التي تشبه صورة المَكدي إلى حدٍ ما، حيث عرف عن الصعلوك الخامس الذي يقبل بالإهانة والفقر ويرضى بالقليل من الأموال التي تُعطى له من الأغنياء فيقول في ذلك:

لحى الله صعلوكا إذا جن ليله

مصافي المشاش آلفا كل مجزر 

يعد الغنى من دهره كل ليلة

أصاب قراها من صديق ميسر

وفي الإسلام نلقى أن الكدية لم تظهر في المجتمع وكذلك لم تظهر في الأدب والشعر، ويرجع السبب إلى أن الإسلام شجع على كسب المال من خلال الكد باجتهاد دون سؤال أحد، كما أنه جعل في مال الأثرياء حق للفقراء ويجب على الثري مساعدة أخيه المحتاج.

ولكن دائماً هناك شذوذ في كل أمر لذا نرى أن الكدية وجدت وظهرت ولكن بشكل قليل شاذ، ومثال على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى سائلاً يسأل الناس بعد المغرب فقال:

“فقال لواحد من قومه:  عَشّ الرجل، فَعشاه، ثم سمعه ثانية يسأل فقال: ألم أقل لك عََشّ الرجل؟ قال: قد عَشيته فنظر عمر فإذا يديه مخلاة مملؤة خبزاً، فقال: لست سائلاً ولكنك تاجر، ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة وضربه بالدرة وقال لا تعد”.

ومن الكلام عن الكدية في الإسلام حيث جاء رجل إلى عمر بن الخطاب يطلبه:

يا عمر الخير جزيت الجنة

إكسِ بُنياتي وأمهن

وكن لنا من الزمان جنة

أقسم بالله لتفعلنه

فرد عليه عمر: إن لم أفعل ذلك فماذا يكون؟ فرد الأعرابي عليه قائلاً: 

يكون عن حالي لَتُسأَلنَه

يوم تكون الأُعطيات هُنةٌ

وموقِفُ المسؤول بينهُن

إما إلى نارٍ وإما جنةٌ

فبكى عمر بن الخطاب خوفاً مما سمع حتى تبللت لحيته، ثم أمر بإعطاء الأعرابي قميصه الذي لم يكن يملك غيره في ذلك الوقت.

أما في العصر الأموي فترى ظاهرة الكدية منتشرة ولكن نهجت نهج الصعاليك في الجاهلية، حيث كان المجتمع في الفترة الأموية عبارة عن طبقة الأغنياء، وطبقة المحتاجين ولكنهم سلكوا أسلوب الصعاليك، حيث ينهبون ويسرقون من أجل الحصول على الأموال، ومنهم طبقة اتجهت إلى الشكوى من الفقر واتخذته طريقة من أجل كسب المال، ومنهم الشعراء ومثال عليهم الشاعر ابن عبدل الكوفي، وروى له في سؤال الملوك والناس قوله:

يا أبا طلحة الجواد أغثني

بسجال من سيبك المقسوم

أحيي نفسي فدتك نفسي فإنني

مُفلس قد علمت ذاك عديم

وفي النهاية نستنتج أن الكدية انتشرت في المجتمعات بسبب التفاوت الطبقي بين أفراد المجتمع حيث كان هناك طبقة الأغنياء، وطبقة الفقراء الذين توجهوا إلى الكدية بأسلوب ذليل وخضوع من أجل كسب لقمة العيش، واتجه الشعراء إلى الكدية في أشعارهم من أجل كسب المال أيضاً.  


شارك المقالة: