قصة أذكى من إياس
كانَ يقولُ عن نَفْسهِ:” إنّي لأُكَلِّمُ النّاس بنصفِ عَقلِي، فَإذا اختَصمَ إلي اثنينِ جَمَعت لهُمَا عَقلي كُلَّهُ”. مَكثَ في البَصْرةِ يَفصِلُ بينَ الناس ويُصلِحُ بينهُم، وإذا تَبيَّنَ له الحقّ حَكمَ به، ثمَّ هَربَ إلى عُمر بن عبد العزيز بدمشق فطَلبَ منه أنْ يَعفيهِ من القَضاء، فأعفَاه، وولَّى بعده الحسنَ البَصريّ.
قال عنهُ الجَاحظ: كانَ مِن مُقَدَمِي القُضاة، وكان مَطبوعاً على الفقه لذكائِهِ ونُبوغهِ فيما أُشْكلَ منهُ أو غَمُضْ، وكان صَادق الحَدسِ نَقَّاباً، وكان عجيبَ الفراسةِ مُلهَماً، وكان عفيفَ المَطعمِ، وجيهاً عند الخلفاء مقدَّمَاً عندَ الأكفَّاءْ.
صاحب مَثَلنا هو إياسُ بن معاوية بن قُرِّةَ المُزَنيّ، ولد سنة ٤٦ للهجرة في منطقةِ اليَمامَة في نَجْد، وانتقل مع أسرته إلى البصرة، وبها نَشأَ وتَعلَّم، وتَردَّدَ على دمشق في شبابِهِ؛ وأخذَ العِلم عَمّن أدْركَهُم من بقايا الصَّحابة الكرام وجِلَّة التابعين، ولقد ظهرت على الغلام المُزَنيّ علامَات النَّجابةِ ، وأمَاراتُ الذّكاءِ منذ نُعومةِ أظفَاره، وكَانَ شديد الفراسَةِ والحنكَةِ والذّكاء.
تَولّى إيَاس القضاء في البصرةِ خلال خلافة عمر بن عبدالعزيز، ويُروى أنَّ الخليفة قَد أرسَلَ إلى واليِّ البصرة (عَديّ ابن أرْطَاة)، فقال له: اجمع بين إياس بن معاوية، والقاسم بن ربيعة، واعْقِد لهما اختباراً وَوَلِّ قضاءَ البصرةِ أنْفَذهُمَا أي أكْفَأهُمَا، وجمعَ الوالي بينهُما ودار حِواراً بينهما، حاولَ كلّ واحدٍ منهما أنْ يَدفعَ عن نفسهِ مسؤوليةِ القَضاء، ويَمدحُ في الآخَر، إلّا أنَّ الأمرَ انتهى إلى فَرضِ مَنصِبِ القضاء على إياس، فبكى اسْتشعَاراً بحجمِ المسؤولية وثِقلِ الأمانة.
قاض تظهر عليه علامات الذكاء والنجابة منذ صغره
تَظهرُ على القاضي الفَتَى أمَاراتُ الفهمِ والنُّبوغِ والفَراسةِ والذّكاء، حتى بلغَ منهُ مَبلَغاً جعل الشُّيوخ يَخضَعُونَ له، ويَأتمُّونَ به، ويَتَتلمَذُونَ على يديهِ على الرّغمِ من صِغرِ سِنِّهِ، فيُروى في كُتُبِ أخبارِ التَّابعين؛ والقاضي إياس من أعلامِ التّابعين، أي الذينَ تَبِعُوا وأَتَوا بعد جيلِ الصّحابة؛ أنَّ (عبد الملك بن مروان) زارَ البصرة قبل أنْ يَلي الخلافة، فَرأى إياسَاً وكان يومئذٍ فتىً يافِعاً لم يَنبُت شَاربهُ بعد، ورأى خَلفهُ أربعةً من القُرَّاءِ من ذَوي اللِّحى، وهو يَتقدَّمهُم، فقال عبد الملك: (أُفٍّ لأصحابِ هذه اللِّحى، أمَا فيهم شَيخٌ يَتقدَّمهم، ولَمْ يَجِدوا أحَداً فقدَّموا هذا الغلام، ثمَّ التفتَ إلى إياس، وقال: يا غُلام كم سِنُّك؟ -أي ازدراءً له- فقال: أيّها الأمير, سِنِّي أطال الله بقاءَ الأمير كَسِنِّ (أسامة بن زيد) حِينَ ولاَّهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فيهم أبو بكرٍ وعمر، فقال له عبد الملك: تَقدَّم يا فتى تَقدَّمْ, بارك الله فيك) .
ومن المواقفِ التي أشهَرتْهُ وأظهرت ذكاءهُ واتِّقَادِ ذِهنِهِ ونُبوغهِ وجعَلت منه مَضربَ المَثَل في الذّكاءِ والحِنكة، أنَّ رجُلاً استودعَ عند صديقٍ لهُ مالاً، ثمَّ طلبَهُ منه، فَأنكَرهُ، فَشَكاهُ إلى إياسِ القَاضي فقال له: ألديكَ شُهود على مَا تَدَّعِيه؟
قال: لا، قال إياسٌ : ففي أيِّ مكانٍ دفعتَ لهُ مَالَك؟ فقال في مكانِ كذا. قال إياسُ: فأيُّ شيءٍ في ذلك المَوضعِ، قال:
شجرةُ عظيمةُ. قال إياسُ: فَانْطَلقْ إلى الموضعِ، وانظر إلى الشَّجرةِ، لَعلَّ الله يُظهرُ لكَ عَلامةً
يتَبيَّنُ بها حَقَّكَ، وأمّا أنت أيُّها المُنكرُ فاجلِس بِجانبي. ثُمَّ تشَاغلَ إياس ببعضِ القَضايا ولكنَّهُ التَفتَ سَريعاً إلى المُدّعى عليه، وقال: أترى صَاحِبكَ وصل إلى موضعِ الشجرة؟ قال: لا.. لمْ يَصِلْ بعدْ فالمكانُ بعيد. فقال له إياس: يا عدوَّ الله إنّكَ خائنٌ وانتبهَ الرّجل إلى عدمِ يقَظتهِ إلى الإجابة، فأقرَّ بالمالِ وأعادَهُ لِصاحبِه.
يُحدِّثُ القاضي إياس عن نفسهِ فيقول: ما غَلَبَنِي أحدٌ قَطْ سِوى رَجلٍ واحد؛ وذلك أنَّني كُنتُ في مَجلسِ القَضاء في البصرة، ودخل عليَّ رجل وشَهِدَ عندي أنَّ البُستانَ الفُلانيّ هو مِلكٌ لفلان وحدّدهُ لي، ولو أنّني قَضيتُ أنّ البُستانَ له لانْتَقَلَتْ مُلكيّة البُستانِ إليه. لكنّني أرَدّتُ أنْ أمتَحنَ الشَّاهد، فَقلتُ له: كم عدد شجرِ البستان؟ سَكتَ قليلاً وقال : منذُ كمْ يحكمُ القاضي في هذا المجلس؟ قلتُ: منذ كذا سنة، فقال الشَّاهد: يا سيّدي القاضي، كم عدد الخشَبِ في سّقْفِ هذا المجلس؟ فلم أعرف كم عددُ الخشبِ في سقفِ المجلس وعرَفتُ قَصْدهُ. يَقصدَ أنّني مضى عليَّ كذا سنة ولا أعرف كم عدد الخشب، فهل سَيعلمُ هو كم عدد شجرِ البُستان. فقلت : لا أدري والحق معك وأجزت شهادته.
وسنَةً بعدَ سنَة، تَتَجلّى في هذا القاضي ملامحُ الحِنكةِ والدّهاء والفرَاسَة، ويُحكى من فِطنتِهِ أنّه كان في موضعٍ في البصرة، فحَدَّثَ في هذا المكانِ ما أوجبَ الخوف، وكان هذا الاجتماع يضمُّ رجالاً ونِساءً، وكان من بينِ المُجتَمِعين ثلاث نِسوَة لايعرِفَهُنَّ، فقال: هذه ينبغي أن تكونَ حاملاً، وهذه مُرضِعَاً، وهذه عَذراء، فَسُئلنَ عن ذلك فكان كما قال القاضي، فقيل له: من أين لك هذا؟ فقال: عند الخوف لا يضعُ الإنسان يدهُ إلا على أعزِّ ما له ويخافُ عليه، ورأيتُ الحَامِل قد وضَعت يدهَا على جَوفِها، فاسْتَدلَلتُ بذلك على حَمْلهَا، ورأيت المُرضَعَ قد وضعت يدهَا على ثَديهَا، فعلمت أنّها مُرضِع، والعَذراءُ وضَعت يدها على فَرجِهَا، فعلمت أنها بِكْر.
كان هذا القاضي يَضَعُ نُصْبَ عينيهِ حديث النّبي _صلى الله عليه وسلم _:«القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وواحد في الجنة»، فكان يأتي لزيارتهِ العالِمانِ( الحسن البصريّ، ومحمد ابن سيرين)، فكان يبكي ويُسمِعهُمَا هذا الحديث.
وكان إياس يردُّ شهادة مَنْ لا يَطمئنّ إليه وإنْ كان حاكماً أو والياً، فعندما أقبل عليه (وَكيع بن الأسود)، والي خُرَاسان لِيَشهدَ عند إياس بشهادةٍ فقال له: مرحباً وأهلاً بأبي مَطْرَف، وأجلسه معه، ثمَّ قال له: ما جاءَ بك؟ قال: لأشهَدَ لفُلان. فقال إياس: ما لَكَ والشَّهادَة، إنّما يَشهدُ التُّجار والمَوالي والسُّوقَة، فقال: صَدقتَ وانصرفَ من عنده.
أختمُ المقال بأنَّ الذَّكاء《 قِيمة عالية جداً، ولكنّ الذّكاء وحده لا يكفي، لا بُدَّ من الهُدى، ولا بُدَّ مِن أنْ يَستنيرَ الإنسانُ بنور الله تعالى. وإذا كانَ الإنسانُ ذا عَقلٍ راجح، فهذا من نِعَم الله الكبرى، لكن عقلَه الرّاجح من دون طاعة لله عزَّ وجل، شُؤمٌ على صاحبه، وبالعكس، فالعقلُ من دون هُدى أداةٌ انهيارٍ وتدمير، نعمةُ العقل كبيرةٌ، ومن تمامِ النِّعمة أن يكون العقلُ والإيمانُ مُتَكامِلَين》، وربُّنا عزّ وجلّ، يقول:﴿وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً﴾