صاحبُ المقولة:
صاحِبُ مقولتنَا هو أحدُ أعلام الإسلام، وهو رائدٌ من روّادِ الفِقهِ الإسلاميّ؛ إنّهُ الإمامُ الفَقيه أبو حَنيفة النُّعمان بن ثابت الكُوفيّ، كانَ واحداً من الأئمةِ الأربعةِ الذي تَميّز بحُسنِ تَصرّفهِ في مُختلفِ المَواقفِ والأمُور، كانَ فقيهاً وعالماً مسلماً، وكانَ أوّل الأئمة الأربعة عند أهل السّنّةِ والجماعة، وصاحب المذهب الحَنفيّ في الفقهِ الإسلاميّ. اشْتَهرَ بعِلمهِ الغَزِير وأخلاقهِ الحَسَنة، حتى قال عنه الإمام الشّافعيّ:( كُلُّ النّاسِ عِيَالٌ على أبي حنيفة في الفِقه )؛ ويُعد أبو حنيفة من التّابعين، وَلقِيَ عدَداً من الصّحابةِ منهم أنس بن مالك، وكان معروفاً بالوَرعِ وكَثرةِ العِبادة والوقارِ والإخلاصِ وقُوَّة الشَّخصية. وكانَت لهُ مَقولة مُميّزة، هي مَدارُ حَديثنَا في هذا المقَال، وهي( أرادَ أنْ يُوثِقنِي فَرَبطُّتهُ).
لقدْ قالَ أبو حَنيفة النُّعمان هذهِ المَقولة في إشارةٍ إلى أحَدِ المواقفِ التي حَصَلتْ بينَهُ وبينَ رجلٍ يُقالُ لهُ “أبو العبّاس الطُّوسِيّ” وهو أحد عُلماء السّنة، كما أنّه من أعلامِ التَّصوفِ السُّنيّ في العِراق. ولكنه كان يُكِّنُّ في نفسِهِ بعض الغِيرَةِ والحَسدِ لأبي حنيفة، لأنّهُ كانَ أبرز وأظهَر علماءِ الفقهِ في العَلَمِ الإسلاميّ. وهو ما أدَّى إلى الإحتِكَاكِ في أحدِ المواقِفِ التي أظهر فيها أبو حنيفة حِكْمتهُ المَعروفَة.
قصّةُ هذا القَول
تقولُ القِصّة أنَّ الطُّوسيّ كان يَحملُ رأياً سيئاً وحَسَداً لأبي حنيفة ، ولم يكنْ يخفى ذلكَ الأمر على أبي حنيفة، وذاتَ يومٍ دخلَ أبو حنيفة على مجلِسِ الخَليفةِ العبّاسيّ أبو جَعفر المَنصور، وكان في مجلسِهِ كثير من الناس، وكان من بينهم أبو العبّاس الطُّوسي؛ فقال بينه وبينَ نفْسِهِ:” اليومَ أقتلُ أبا حنيفة”، دلالةً على أنّهُ سَيُحرجُ أبا حنيفة أمام الخليفةِ ويوقِعهُ في الخطأ، لِيُغضبَ الخليفة منه.
فقال:”يا أبا حنيفة إنَّ أمير المؤمنين يدعُو الرّجل منَّا فيَأمرهُ بِضربِ عُنقِ الرّجل لا يدري ما هو؛ أيَسَعهُ أنْ يضربَ عُنقَه؟
فَفطِنَ أبو حنيفة إلى مَكيدةِ الطُّوسي ومُحاولَتهِ للإيقاعِ بهِ في الخطأ ، فسأله قائلاً:” يا أبا العباس ؛ أميرُ المؤمنين هلْ يأمرُ بالحَقِّ أو الباطل؟ ، فأجابه: بَلْ يأمُرُ بالحَقّ. حِينهَا قال أبو حنيفة:”أنْفِذ الحَقَّ حيثُ كان ولا تَسألْ عنه”، ثم قال أبو حنيفة لِمنْ كان قريباً منه:” إنَّ هذا أرادَ أن يُوثِقنِي فَربطّتهُ”. أي أرادَ أن يُوقِعني بالخطأِ أمام الخليفة؛ فأوقَعتهُ، ورَددّتُ كيدَه.
أختمُ بالقولِ بإنَّ الحسدَ والغِيرة داءٌ مُنصِفٌ، يفعلُ في الحَاسِدِ والذي عندَهُ غِيرَة، أكثر منْ فِعلهِ في المَحسُود. وهذا مأخوذ من قول: (قاتلَ الله الحَسد ما أعْدَلهُ بدأ بصاحبهِ فَقتَله). فالحاسِدُ سَاخطٌ لقِسمةِ ربِّه، ويتمنّى زوالَ النّعمة عن غيرِهِ من النّاس سواءً نعمةَ المال أو العِلمِ.