” علـّموا أولادَكم لَاميَّة العرب، فإنّها تُعلّمهُم مكَارم الأخلاق “؛ مقولةٌ قالها عمر بن الخطّاب_ رضي الله عنه_، في حقِّ لاميّة العرب، والتي مَطلعهَا:
أَقِيمُـوا بَنِـي أُمِّـي صُـدُورَ مَطِيِّـكُمْ**فَإنِّـي إلى قَـوْمٍ سِـوَاكُمْ لَأَمْيَـلُ
فَقَدْ حُمَّتِ الحَاجَاتُ وَاللَّيْـلُ مُقْمِـرٌ**وَشُـدَّتْ لِطِيّـاتٍ مَطَايَـا وَأرْحُلُ
وفي الأَرْضِ مَنْـأَى لِلْكَرِيـمِ عَنِ الأَذَى**وَفِيهَا لِمَنْ خَافَ القِلَـى مُتَعَـزَّلُ
صاحب مثل أعدى من الشنفرى
الشَّنْفَرَى؛ ثابت بن أوَاس (وليس أوس ) الأزدِيّ (أواس ابن من أبناء حِجر بن الهَنوء الأزدي)، شاعر جاهلي من صعاليك العرب، من فُحول الطبقة الثانية؛ وكان من فُتَّاك العرب وعَدّائيهِم. وهو أحد الخُلَعاء الذين تَبرَّأت منهم عشائرهم. ضُربَ به المثل بقولِ العرب” أعدى من الشَّنفَرى”؛ وقِيل أنَّ قَفَزاتهِ قِيسَت ليلة مقتله، فكانت الواحدة منها قريباً من عشرين خطوة. فقد عُرِفَ أنّهُ كان سريع العَدو يُسابِق الخيل؛وقد ذكرَ العَمرَوي:” إنَّ الشَّنفَرى كان يذهب من تَنومة إلى مكة في ظرف ثماني ساعات، فَلَم تعرف العرب أسرع من عَدوهِ”.
وقبيلتهُ هي قبيلة الأزدِ اليمنية، وهو قَحطانيّ النَّسب، وسُمّيَ بذلكَ لأنّهُ كان غَليظ الشِّفاه( مُشَّفَر الشِّفاه)، وقد كان هزيلاً نَحيلاً، يَلبسُ ثياباً بَاليَة، ونِعالاً مُقطَّعة؛ واتَّضحَ ذلك من خلال قصائدهِ. مات قبل الهجرة النّبويّة بسبعين سنة؛ وقد كتبَ قصيدتهُ المشهورة” لاميّة العرب”. وقد كان الخُلفاء الأمويّين والعباسيّين لا يُريدُون لأبنائهِم أنْ يَحفظوا لاميَّة الشَّنفَرى لأنّها تُشجِّع على الهِجرَة. وقِيل أنَّ الشاعر الجاهليّ الصُّعلوك تأبَّطَ شَرّاً، هو خَال الشَّنفًرى، ويقال ابن خالته ولكنّه هو مُلهِمَه وأستاذهُ في الصَّعلكَة.
يقال أن تأبط شرًا وهو أحد الصعاليك، هو الذي حرضه على الصعلكة، واستمر الشنفرى في مهاجمة قبيلة الأزد حتى قتل منهم تسعة وتسعين رجلًا، لكنهم رصدوا له كمينًا في النهاية فأوقعوا به وقتلوه ومثلوا به تمثيلًا.
نشأة الشنفرى
تَعدَّدت روايات كُتَّاب التاريخ العربي ونَسّابَة الرّجال، حول نَشأة الشَّنفَرى، ولكنَّ أبرز وأرجح هذه الرِّوايات بعد تَجميعها وتَوفيقِها مع بعضها؛ تذكُر بأنَّ الشَّنفَرى قد نشأ في قبيلةِ فَهْم العدنانية قبيلة (أمّهِ)؛ بعد مقتل والدهِ على يَد قبيلة بني سُلامان بن مُفرّج.
ودارت الأيام وأسَرَت قبيلة سُلامان رجلاً من قبيلة فُهم من الأزدِ؛ فَفدَت قبيلة فُهم هذا الرجل بالشَّنفرى، وكان وقتهَا غُلاماً؛ ونشَأ الشّنفَرى في بني سُلامان بن مُفرّج كأنّهُ واحد منهم، ونَبغَت شاعريّتهُ وفصاحتهُ، وصار من أفْتَكِ الرّجال وأشدّهم؛ حتى نَازعتهُ وأغضبتهُ ابنَة الرجل الذي كانَ الشَّنفَرى يعيشُ في بيتهِ، وكان قد اتّخذهُ هذا الرجل السُّلامي كأنّهُ ولدٌ له.
وسبب هذا النّزاع وهذا الغضب؛ أنَّ الشَّنفرى طلبَ من ابنة هذا الرجل أنْ تغسلَ رأسهُ فقال لها:” اغسلي رأسي يا أُخيّة”، فأنكَرت أنْ يكون أخاها، فَلَطَمتهُ على وجههِ؛ فغَضِبَ حتّى أتى أباها، فقال له: اصدُقنِي القول؛ مِمَّن أنا؟ قال: أنت من الأواس بن الحِجر، فقال: أمَا إنّي لَنْ أدَعكُم حتى أقتلَ منكم مئة بما استَعبَدّتُمونِي، وقيل أنّه قال: لأقتُلنَّ منكم مئة ثأراً لأبي الذي قتلتموه؛ ثُمَّ مَرَّ على الفتاة السُّلامانيّة التي لطمته، فقال:
ألا هَل أتى فِتيانُ قَومي جَماعةً | بِما لَطمَت كَفّ الفتاة هَجينهَا | |
ولو عَلِمَت تلك الفتاة مَناسِبي | ونِسبَتهَا ظَلَّت تُقَاصِر دُونها | |
أليس أبي خير(الأواس)وغيرها | وأمي ابنة الخيرين لو تعلمينها | |
إذا مَا أروم الودّ بيني وبينها | يَؤمُّ بياض الوجه منّي يمينها |
وأنشأ الشَّنفرى مع بعض رِفاقهِ العَدائين، ومنهم{ تأبّطَ شَرّاً، والسُّليك بن السّلكَة، وعمرو بن البرّاق، وأسيَد بن جابر}، عُصبَة عُرِفت في الأدب العربي؛ بالشعراء الصعاليك، وكان الشَّنفَرى سريع العَدو والرّكض لا تُدرِكهُ الخيل حتى قيل: (أعدى من الشَّنفرى)، وكان يُغيرُ على بني سُلامان بن مُفرّج، وعاش الشَّنفرى مع جماعتهِ في البراري والجبال والوديان، يغزو ويسلب ويقتل، حتى قتل من بني سُلامان تِسعة وتسعين رجلاً.
وقيل أنَّ قبيلة سُلامان بن مفرّج، قد نَصَبوا له شَركَاً( مصيَدة)، وأمسكوا بهِ وقتلوه ثُمَّ صلبوه مُدّة طويلة حتى سقطت جُمجمتهُ من على جَسدهِ، فَمَرَّ رجل من الذين أمسكوا بالشَّنفرى ورَكل جُمجمة الشَّنفَرى بِقَدمهِ، فأصابتهُ عَظْمَة من عِظامِ رأس الشَّنفرى وأصابتهُ بالحُمَّى حتى مات من هذه الرّكلة؛ وأصبحوا مائة رجل يقتلهُم الشَّنفرى؛ فَأوفى بوعدهِ بقتلِ مئة رجل من قبيلة سُلامان بن مُفرّج.
لامية العرب للشنفرى
اشتهر الشَّنفَرى أكثر من أقْرَانهِ وأصحابهِ من الشُّعراء الصَّعالِيك بِفَضلِ قصيدته المُطوَّلة “لاميَّة العرب“؛ والتي لا يُعرف سَبب تَسمِيتهَا بـ “لاميَّة العرب”، على الرّغمِ أنَّ هناك قصائد لاميَّة نُسِبَت لشعراء جاهليّين عَديدين مثل{ عنترة بن شدّاد العبسي، وزهير بن أبي سلمى، وكعب بن زهير}.
ولكنَّ العرب أطلَقت على لاميّة الشنفرى هذا الاسم لأنها عَبّرَت أشَدّ تَعبير عن حياة العرب الجاهلية بما فيها من ظروف وأخلاق وطِبَاع. وتاريخ هذه التسمية تقريباً يعود إلى القرن الذي عاش فيه الزمخشري، والذي ظهرت فيه أيضاً لامية العجم للطَّغرَائِي(ت513هـ). فكان لِلنَّزعَة الشُّعوبيّة دور في هَاتَين التَّسمِيَتَين بلا شَك.
والتي اعتُبِرت واحدة من أهم وثائق الأدب الجاهليّ، المُعبّرة عن نموذج المعيشة الجاهلية؛ والتي تُرجِمَت لعِدَّةِ لُغات عالمية مثل( الألمانية، والفرنسية، والإنجليزية، واليونانيّة)؛ وشَرحهَا أكثر من عَالِمٍ من عُلماء اللّغة، أمثال( الزّمخشري، والمُبَرّد، والمُفَضّل الضَّبّيّ).
فقد تحدّث الشَّنفرى في لامِيّتهِ عن حياة الصُّعلوك وتمرُّده وشجاعته وصبره وأخلاقهِ، كما تَحدّث أيضاً عن أساليب الغزو وأنواع الأسلحة المستعملة في ذلك الوقت، وتحَدّث فيها عن أصحابهِ الصَّعاليك الذين كانوا معه.
وتظهر في “لاميّة الشَّنفرى” القُوّة اللُّغويّة، وجزالة الألفاظ، والصِّياغة الشعرية والفنية العالية؛ كما برزَت فيها فخامة اللغة العربية أيام الجاهلية، من البَراعة والموهبة والذَّوق.
على الرغمِ أنَّ الشَّنفرى قد اشتُهِرَ كواحد من أشجع فرسان الصَّعاليك ومن أقوَاهم ومن فُتّاك العرب، فإنه كان إلى جانبِ ذلك شاعر غَزلٍ لطيف، كاشفَاً لِغوايَات الأنوثَة، مُتعشِّقاً لِمَفاتِنها، مُتذوّقاً لقيم المرأة المُتَحلّية بأخلاقِ العِفَّة.
وهذه بعض أبيات قصيدة لامِيّة العرب للشَّنفَرى:
أقيموا بني أمي، صدورَ مَطِيكم | فإني، إلى قومٍ سِواكم لأميلُ! | |
فقد حمت الحاجاتُ، والليلُ مقمرٌ | وشُدت، لِطياتٍ، مطايا وأرحُلُ؛ | |
وفي الأرض مَنْأيً للكريم عن الأذى | وفيها، لمن خاف القِلى، مُتعزَّلُ | |
لَعَمْرُكَ ما بالأرض ضيقٌ على أمرئٍ | سَرَى راغباً أو راهباً، وهو يعقلُ | |
ولي، دونكم، أهلونَ: سِيْدٌ عَمَلَّسٌ | وأرقطُ زُهلول وَعَرفاءُ جيألُ | |
هم الأهلُ. لا مستودعُ السرِّ ذائعٌ | لديهم، ولا الجاني بما جَرَّ، يُخْذَلُ | |
وكلٌّ أبيٌّ، باسلٌ. غير أنني | إذا عرضت أولى الطرائدِ أبسلُ | |
وإن مدتْ الأيدي إلى الزاد لم أكن | بأعجلهم، إذ أجْشَعُ القومِ أعجل | |
وماذاك إلا بَسْطـَةٌ عن تفضلٍ | عَلَيهِم، وكان الأفضلَ المتفضِّلُ | |
وإني كفاني فَقْدُ من ليس جازياً | بِحُسنى، ولا في قـربه مُتَعَلَّلُ | |
ثلاثةُ أصحابٍ: فؤادٌ مشيعٌ، | وأبيضُ إصليتٌ، وصفراءُ عيطلُ | |
هَتوفٌ، من المُلْسِ المُتُونِ، يزينها | رصائعُ قد نيطت إليها، ومِحْمَلُ | |
إذا زلّ عنها السهمُ، حَنَّتْ كأنها | مُرَزَّأةٌ، ثكلى، ترِنُ وتُعْوِلُ | |
ولستُ بمهيافِ، يُعَشِّى سَوامهُ | مُجَدَعَةً سُقبانها، وهي بُهَّلُ | |
ولا جبأ أكهى مُرِبِّ بعرسـِهِ | يُطالعها في شأنه كيف يفعـلُ | |
ولا خَرِقٍ هَيْقٍ، كأن فُؤَادهُ | يَظَلُّ به الكَّاءُ يعلو ويَسْفُلُ | |
ولا خالفِ داريَّةٍ، مُتغَزِّلٍ، | يروحُ ويغدو، داهناً، يتكحلُ | |
ولستُ بِعَلٍّ شَرُّهُ دُونَ خَيرهِ | ألفَّ، إذا ما رُعَته اهتاجَ، أعزلُ | |
ولستُ بمحيار الظَّلامِ، إذا انتحت | هدى الهوجلِ العسيفِ يهماءُ هوجَلُ |