على الرغم من أن الناس اختلفوا في تعبيرهم عن المواقف التي عاشونها عبر العصور والأزمنة، وقد تطورت اللغة والآداب عند الإنسان من عصر إلى عصر، ومن حديث لأحدث، إلا أن الأمثال الشعبية والفصيحة بقيت مرتبطة بالإنسان ومستمرة، فنجد الأمثال على إيجازها وخفتها رفيقة الإنسان في المواقف والأحداث المختلفة، تصوّرها وتصفها وصفًا دقيقًا، وهي الأمثال ذاتها التي استخدمها الآباء والأجداد، دون تطور أو تقدم، إنما تُعدّ عند الكثيرين مرآة للحكمة وملاذًا يلجأ إليه المرء عند الحاجة، فإما أن يكون استخدامها للاتعاظ بها، أو لتوجية النصح للآخرين.
فيم يضرب مثل أكذب من سجاح؟
إن الكذب صفة تحتقرها كل الثقافات والحضارات، وكما أنه منبوذ من كل الأعراف الاجتماعية والإنسانية، ويُعدّ الكذب في أي لغة، عارًا يلحق بصاحبه؛ نظرًا لما يتضمنه من ضرر قد يقع بالمكذوب عليه، فضلًا عن أنه ينتمي إلى فئة الخداع والزور والباطل، في السلوك الشخصي بصفة عامة، وقد أدلت العرب بدلوها في شأن الكذب، فحقّرت من فاعله، ثم حذرت منه، بل وأطلقت اسمه مثلاً سائرًا في الناس.
لقد كان الكذب عند العرب وما يزال، عارًا يلتصق بالذي يقترفه فلا يفارقه، حتى أنه يصبح ملازمًا لاسمه، ويصبح مثلًا تتداوله الأجيال؛ وذلك وفقًا لنظرتها التي جعلت الكاذب من أسوأ البشر، في المقام والأصل والقول والفعل، فشتمت الكاذب وأشارت إليه بالبنان، وربطت اسمه بفعل الكذب، فصارا متلازمين متحدين، كما لو أن الواحد منهما، يدل على الآخر، سواء في المثل السائر، أو البيت الشعري، أو المروي الشفوي الذي لا يزال بيننا، حتى اللحظة، وأما المثل الذي بين أيدينا فهو “أكذب من سحاج”، والذي يُضرب للشخص الذي يتفنن في الكذب، ويتخذه أسلوب حياة.
قصة مثل “أكذب من سجاح”:
أما “سجاح التميمية” فهي امرأة كان يُضرب بها المثل في الكذب، حتى قيل: “أكذب من سجاح”، وعلى الرغم من ذلك اتبعها الناس، حتى أنها ذهبت إلى مسيلمة الكذاب، وتحالفت معه وتزوجته، وكما أنها تشاركت معه في الكذب على الناس، وقصصها مشهورة معروفة في كتب الأدب والتاريخ، وسرد هذه القصص يعد تكرارًا، وتكفي هنا الإشارة إليه إلى تحليل هذه الشخصية، وكيف اتبعها قومها.
لا بد أن نلاحظ أن الجانب المعرفي لسجاح، قد ساعدها على أن تكون في صدارة مشاهد الحياة الاجتماعية لقبيلتها بني تميم، إذ إنها امرأة نصرانية الديانة، وقد تعلمت القراءة والكتابة في ذلك الزمن الذي وُسم بالأمية، وأن تعرف امرأة في ذلك الزمن القراءة والكتابة يُعدّ أمرًا مميزًا، بالإضافة إلى أنها كانت كثيرة الأسجاع، ومن ثم فهي صاحبة لسان ومنطق يحلو للناس أن يستمعوا له والأسجاع تمتع الأسماع، وفي رواية ذكرتها بعض كتب التاريخ، أن سجاح كانت جميلة، وإنما اتبعها قومها لجمالها.
في الواقع إن القارئ يقف أمام شخصية جاذبة في نفسها لمجتمع لا يزال يعاني من آثار الجاهلية، وهي شخصية قادرة على أن تقنع بكلامها حتى لو كان كذبًا، وهذا الإقناع أهّلها لقيادة قومها بشكل جعلها تتجرأ على أن تذهب بقومها، وقد جيشتهم بأعداد كبيرة لغزو مكة والمدينة، ومحاربة سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثم أدركت صعوبة ذلك فيما بعد، أما قومها فليسوا من عامة الناس ولكن كان منهم الشعراء مثل متمم بن نويرة وعطارد بن حاجب، وجماعة من سادة أمراء بني تميم على حد تعبير ابن كثير، إذًا فهي شخصية ليست بالسهلة، فجاذبيتها طغت على هؤلاء الأمراء، لكن لماذا لم يستطع أحد أن يؤثر فيها ويتزوجها، ونجح في ذلك مسيلمة الكذاب.
لقد كان بين سجاح وبين مسيلمة تشابهًا في تكوينهما المعرفي والديني، فكل واحد منهما قد تربى في الكنيسة، وكلاهما يعرف القراءة والكتابة، كما أنهما يجيدان الأسجاع وإمتاع الأسماع، ومسيلمة نجح في بني حنيفة في تجييش عدد كبير، لقد همت هذه الشخصية الطموحة بغزو سيدنا أبي بكر، غير أنها عرفت صعوبة مهمتها فعزمت على غزو مسيلمة الكذاب، ولكن مسيلمة أيقن أنها قوية بقومها، فأراد أن يأخذها في صفه للحرب الكبرى بين المسلمين، يقول ابن كثير في البداية والنهاية: ” فعمدوا لحرب مسيلمة، فلما سمع بمسيرها إليه خافها على بلاده، وذلك أنه مشغول بمقاتلة ثمامة بن أثال، وقد ساعده عكرمة ابن أبي جهل بجنود المسلمين”.
كان اللقاء الأول بين سجاح ومسيلمة جذابًا لكليهما، فهي رأت فيه توافقًا أخلاقيًا ومعرفيًّا تحبه، فهو مثلها كذاب، وهي تعلم ذلك، لكن لغة المصالح ستجعل كلًّا منهما يقبل بكذب الآخر، يقول ابن كثير: “بعث إليها يستأمنها، ويضمن لها أن يعطيها نصف الأرض التي كانت لقريش لو عدلت، فقد رده الله عليك فحباك به، وراسلها ليجتمع بها في طائفة من قومه فركب إليها في أربعين من قومه، وجاء إليها فاجتمعا في خيمة، فلما خلا بها وعرض عليها ما عرض من نصف الأرض قبلت ذلك”.