أندم من الكسعي

اقرأ في هذا المقال


تُعدّ الأمثال من أهم وأبرز عناصر ثقافة الشعوب، إذ أنها مرآة لطبائع الناس ومعتقداتهم؛ وذلك لأنها تتعمق وتتغلغل في أغلب جوانب حياتهم اليومية، وهي لا تعكس المواقف المختلفة فقط، بل هي تتجاوز ذلك في كثير من الأحيان، لتقدم للناس نموذجاً يُقتدى ويُتمثل به في مواقف عديدة ومشابهة.

الأمثال الشعبية ما هي إلا ثروة قيّمة من التجارب البشرية، والتي عاشتها تلك المجتمعات منذ قديم الزمان، وذلك من خلال وقائع وحوادث تمكن العقل البشري صياغتها بعبارات موجزة، وفكرة مكثفة، تعكس استيعاب الإنسان لهذه الحالة وإدراكها، وكما أنها تُبرز فطنة البشر لها، ثم صياغتها بطريقة أدبية وبلاغية، والأمثال الشعبية هى واحدة من الخصوصيات الثقافية التي يتسم بها شعب من الشعوب، وقد ينفرد شعب ما بترديد مجموعة منها، وقد يشترك فيها مع غيره من الشعوب، مع وجود اختلافات بسيطة، كلّ حسب أسلوبه ولهجته.

لم يضرب مثل “أندم من الكسعي”؟

يُعتبر مثل “أندم من الكسعي” واحدًا من الأمثال الشعبية العربية التي تضرب وتُقال في مواقف الندم والتأسي على ما فات، والندم في الاصطلاح اللغوي هو الأسف، وأن تقول ندمت على أمر ما؛ أي أسفت عليه، وكان رسولنا الكريم- صلى الله عليه وسلم- يقول الندم توبة، وأندم على وزن أفعل، وهي اسم تفضيل من ندم، وأما الكسعي فهو رجل عاش في الجاهلية، ويُدعى محارب بن قيس من كسعة وهو حي من قيس عجلان، وقيل هو حي من اليمن أصحابه رماة للقوس، وللكسعي قصة يضرب بها هذا المثل في الندم.

قصة مثل “أندم من الكسعي”:

يُحكى أن الكسعي كان يملك إبلاً يرعاها في وادٍ فيه الكثير من الشجر، وفي يوم من الأيام بينما هو يسير في الوادي، لفتت نظره شجرة راقت له، فقال في نفسه: لأصنعن لنفسي قوساً من هذه الشجرة، وبقي يتعهدها ويرعاها ويرصدها في كل يوم حتى استوت فقطعها، وبعد ذلك قام بتجفيفها، وبعد ذلك صنع قوساً شديداً من أغصانها ثم دهنه وألحق به وتراً، وصنع خمس سهام من برايتها، وكان يقول وهو ينحت قوسه:

“يَا رَبِّ سَدِّدْنِي لِنَحْتِ قَوْسِي فَإِنَّهَا مِنْ لَذَّتِي لِنَفْسِي
وَانْفَعْ بِقَوْسِي وَلَدِي وَعِرْسِي أَنْحَتُهَا صَفْرَا كَلَوْنِ الْوَرْسِ
كَبْدَاءَ لَيْسَتْ كَالقِسِيِّ النُّكْسِ”.

ثمّ همّ الكسعي ببري الأسهم الخمسة وهو ينشد قائلًا:

“هُنَّ وَرَبِّي أَسْهُمٌ حِسَانُ
يَلَذُّ لِلرَّامِي بِهَا البَنَانُ
كَأَنَّمَا قَوَّمَهَا مِيزَانُ
فَأَبْشِرُوا بِالْخِصْبِ يَا صِبْيانُ
إِنْ لَمْ يَعُقْنِي الشُّؤْمُ وَالْحِرْمانُ”.

رغب الكسعي في تجربة رمحه الجديد، فخرج على منطقة تسعى بها الحُمر الوحشية، وشدّ قوسه، ورمى سهامه، وهو يردد:

“أَعُوذُ بِالْمُهَيْمِنِ الرَّحْمَنِ
مِنْ نَكَدِ الْجَدِّ مَعَ الْحِرْمَانِ
مَا لِي رَأَيْتُ السَّهْمَ فِي الصَّوَّانِ
يُورِي شَرَارَ النَّارِ كَالعِقْيَانِ
أَخْلَفَ ظَنِّي وَرَجَا الصِّبْيَانِ”،

وقد أصاب سهم الكسعي حماراً وحشياً، ومن قوته امتد إلى الجبل وطال، فلما رآه حسب أنه لم يصب هدفه، فرمى سهمه الثاني، وهو يقول:

“أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْ شَرِّ الْقَدَرْ
لاَ بَارَكَ الرَّحْمَنُ فِي أُمِّ القُتَرْ
أَأُمْغِطُ السَّهْمَ لِإِرْهَاقِ الضَّرَرْ
أَمْ ذَاكَ مِنْ سُوءِ احْتِيالٍ وَنَظَرْ
أَمْ لَيْسَ يُغْنِي حَذَرٌ عِنْدَ قَدَرْ”،

فصار معه كما حدث في المرة الأولى رمى العير وظنَّ أنَّه لم يُصِبه كذلك، فقال:

“إِنِّي لِشُؤْمِي وَشَقَائِي وَنَكَدْ
قَدْ شَفَّ مِنِّي مَا أَرَى حَرُّ الْكَبِدْ
أَخْلَفَ مَا أَرْجُو لِأَهْلٍ وَوَلَدْ”.

شدّ الكسعي قوسه للمرة الثالثة، ثمّ رمى السهم الثالث، فأصاب عيراً من الحُمر الوحشية، غير أنه أيضاً ظنّ أنّ سهمه لم يُصب العير في هذه المرّة كذلك، فقال:

“مَا بَالُ سَهْمِي تُوقِدُ الْحُبَاحِبَا؟!
قَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ صَائِبَا
إِذْ أَمْكَنَ الْعِيرَ وَأَبدَى جَانِبَا
فَصَارَ رَأيِي فِيهِ رَأَيًا كَاذِبَا
أَظَلُّ مِنهُ فِي اكتِئَابٍ دَائِبَا”.

هكذا بقي مع الكسعي آخر سهم ، فقام برميه، وحدث معه كما حدث في سابق المرات، واعتقد أنه لم يُصب الحمار الوحشي في هذه المرّة كذلك، فأخذ يقول:

“أَبَعْدَ خَمْسٍ قَدْ حَفِظْتُ عَدَّهَا
أَحْمِلُ قَوْسِي وَأُرِيدُ رَدَّهَا
أَخْزَى إِلَهِي لِينَهَا وَشَدَّهَا
وَاللهِ لاَ تَسْلَمُ عِنْدِي بَعْدَهَا
وَلاَ أُرَجِّي مَا حَيِيتُ رِفْدَهَا”.

ثم إن الكسعي من شدة ما أصابه من الضيق، أتى بالقوس إلى صخرة، وقام بضربها حتى انكسرت، ثم نام إلى جانبها حتى استيقظ في الصباح، فمشى إلى حيث كانت سهامه، فإذا بالحمر الخمسة مسجاة على الأرض وهي مضرجة بدمائها، فندم على كسره قوسه أشد الندم لدرجة أنه عضّ إبهامه فقطعها، ثم بدأ يقول:

“نَدِمْتُ نَدَامَةً لَوْ أَنَّ نَفْسِي
تُطَاوِعُنِي إِذًا لَقَطَعْتُ خَمْسِي
تَبَيَّنَ لِي سَفَاهُ الرَّأْيِ مِنِّي
لَعَمْرُ اللهِ حِينَ كَسَرْتُ قَوْسِي”.

مثل “أندم من الكسعي” في الشعر:

لقد استَشهَد الشعراء بهذا المثل وضمنوه في شعرهم، ومن هؤلاء الشعراء الشاعر المعروف الفرزدق، إذ قال:

“نَدِمْتُ نَدَامَةَ الْكُسَعِيِّ لَمَّا
غَدَتْ مِنِّي مُطَلَّقَةٌ نَوَارُ
وَكَانَتْ جَنَّتِي فَخَرَجْتُ مِنْهَا
كَآدَمَ حِينَ لَجَّ بِهَا الضِّرَارُ
وَكُنْتُ كَفَاقِئٍ عَيْنَيْهِ عَمْدًا
فَأَصْبَحَ مَا يُضِيءُ لَهُ النَّهَارُ”.


شارك المقالة: