أوستن وفلسفته بين المعنى والحقيقة

اقرأ في هذا المقال


بمساعدة منهجيته المبتكرة يتخذ الفيلسوف جون لانجشو أوستن موقفًا جديدًا تجاه لغتنا اليومية، حيث كما هو معروف، يريد الفلاسفة والمنطقون مثل جوتلوب فريج وبرتراند راسل، والأقدم لودفيج فيتجنشتاين وألفريد تارسكي وويلارد كوين بناء لغة مثالية للتواصل الفلسفي والعلمي، أي لغة اصطناعية خالية من كل الغموض والعيوب التي تميز اللغات الطبيعية، وبالمقابل ينظر فلاسفة اللغة العادية إلى جانب أوستن وفيتجنشتاين اللاحق وفريدريش وايزمان وبول جريس وبيتر ستراوسون إلى اللغة الطبيعية كموضوع مستقل للتحليل، وعيوبها الواضحة كعلامات للثراء والقوة التعبيرية.

أوستن وتقييم الحقيقة:

يجب أن نتجنب سوء فهم محتمل لفلسفة أوستن في الحقيقة، حيث تظهر حجته على الأكثر أنّ كل ما يتحد مع الحقائق لتحديد قيمة حقيقة معينة يختلف من مناسبة إلى أخرى، وهذا لا يفعل شيئًا لإزاحة الرأي الطبيعي القائل بأنّ الجملة يمكن أن تحمل معناها من مناسبة إلى أخرى وبالتالي يكون لها معنى حرفي، ومع ذلك إذا أردنا الاحتفاظ بهذه الفكرة يجب أن نتخلى عن فكرة أنّ معنى الجملة يتحد ببساطة مع الحقائق التي يتم الحديث عنها لتحديد قيمة الحقيقة، ويجب أن نرفض فكرة أنّ معاني الجملة تحدد شروط الحقيقة.

من المعقول أن نتخلى أيضًا عن فكرة أنّ المعنى وحده يحدد ما هو مذكور، على الأقل بقدر ما يحدد الأخير شروط الحقيقة، وبأخذ هذا الخط فإننا نرفض آراء المعنى التي بموجبها يُمنح من خلال الاحتكام إلى شروط الحقيقة.

يثير تفسير أوستن إمكانية الكلام الذي لا يتم فيه إنتاج بيان يمكن تقييم الحقيقة، ففي جملة: “فرنسا سداسية”، عند مواجهتا بالحقائق ففي هذه الحالة نفترض مع فرنسا، فهل هذا صحيح أم خطأ؟ فإذا قصد المرء ذلك فبالطبع يستطيع أحد آخر أن يرى ما يقصده الأول بقوله أنّه صحيح لبعض المقاصد والأغراض، وربما يكون كافيًا لجنرال رفيع المستوى ولكن ليس لجغرافي، فكيف يمكن للمرء أن يجيب على هذا السؤال سواء كان صحيحا أم خطأ أنّ فرنسا سداسية؟

إنّه أمر تقريبي فقط، وهذا هو الجواب الصحيح والأخير على سؤال علاقة “فرنسا سداسية” بفرنسا، حيث إنّه وصف تقريبي، وإنّها ليست صحيحة أو خاطئة، فما يميزه أوستن في إنكاره النهائي هو الجملة “فرنسا سداسية” فيما يتعلق بفرنسا، وإنّه لا يحتاج ولا ينكر أنّه في بعض الأحيان ولأغراض وغايات معينة، قد يستخدم المرء الجملة للتعبير عن الحقيقة، ومع ذلك فإنّه يشير إلى أنّه في بعض الحالات قد تكون ظروف الكلام من النوع الذي لا يتم فيه الإدلاء ببيان يمكن تقييم الحقيقة باستخدام جملة.

لنفترض على سبيل المثال أنّ أحدهم نطق بعبارة: “فرنسا سداسية” فجأة دون توضيح أي مقاصد وأغراض، ففي هذه الحالة لن يكون هناك ما يسعفنا لإثبات صحة الكلام أو خطأه غير الكلمات المستعملة مع معانيها، ولكن ربما قد تم استخدام هذه الكلمات للإدلاء بمجموعة متنوعة من العبارات، أو التصريحات التي تعتمد حقيقتها أو زيفها على الحقائق بطرق متنوعة.

ومن ثم ما لم نكن على استعداد للسماح بأن يكون الكلام صحيحًا أو خاطئًا، فإنّه يجب أن نحجب طريقة التقييم هذه على الرغم من أنّ مثل هذا الكلام قد ينطوي على جملة ذات معنى تمامًا، إلّا أنّه لن يكون صحيحًا أو خاطئًا، حيث اعتقد أوستن أنّ استخداماتنا للكلمات دائمًا ما تكون عرضة لهذا النوع من الفشل خاصة عندما نقوم بالفلسفة، حيث عند استخدام الكلمات في حالات خارجة عن المألوف أو في غياب الخلفية المطلوبة للحفاظ على بيان الحقائق أو الأكاذيب، فقد تخيبنا الكلمات بهذا المعنى.

فلسفة أوستن في نظرية انكماش الحقيقة:

وفقًا لنظرية الحقيقة الانكماشية فإنّ التأكيد على صحة العبارة هو مجرد تأكيد العبارة نفسها، على سبيل المثال القول بأنّ: “الثلج أبيض” هو أمر صحيح، أو أنّه من الصحيح أنّ الثلج أبيض، وهذا يعادل القول ببساطة أنّ الثلج أبيض، وهذا وفقًا لنظرية الانكماش هو كل ما يمكن قوله بشكل كبير حول حقيقة “الثلج أبيض”.

وعند الحديث عن مسألة إلى أي مدى يؤيد أوستن حساب انكماش للحقيقة، يميل الاختلاط في المصنف (الانكماشي) إلى جعل السؤال صعب المناقشة بطريقة مفيدة، ومع ذلك يمكننا على الأقل التفكير في بعض الطرق التي قد يُعتقد أنّ أوستن من خلالها يعطي دورًا توضيحيًا للحقيقة أو ينكر مثل هذا الدور، فمن الواضح أنّ أوستن يرغب في رفض شكل الفيلسوف بيتر فريدريك ستراوسون القوي للغاية من الانكماش، والذي وفقًا له تكون وظيفة الحقيقة أداءً شاملاً، أي القول بأنّ العبارة صحيحة على وجه التحديد لتأييد هذا البيان نفسه.

علاوة على ذلك لا توجد علامة على أنّ أوستن يعتقد أنّه يمكن تقديم حساب للتعبير عن البيانات من خلال البيانات التي لا ترتبط مع مراعاة الظروف التي قد يخضع فيها تصريحهم لشكل أو آخر من أشكال التقييم الإيجابي، ففي المستوى الأكثر عمومية النظر في شروط صحتها، ومع ذلك غالبًا ما يصف أوستن الحقيقة والخطأ بأنفسهم، وفي الواقع مجرد تسميات للأقطاب الإيجابية والسلبية على التوالي في مجموعة متنوعة من أشكال التقييم الأكثر تحديدًا.

نصبح مهووسين بـ (الحقيقة) عند مناقشة العبارات تمامًا كما نصبح مهووسين بـ (الحرية) عند مناقشة السلوك، وطالما أننا نعتقد أنّ ما يتم تحديده دائمًا ومنفرداً هو ما إذا كان إجراء معين قد تم بحرية أم لا فإننا لا نصل إلى أي مكان، ولكن بمجرد أن ننتقل بدلاً من ذلك إلى العديد من الظروف الأخرى المستخدمة في نفس الصلة.

على سبيل المثال عند قول الجمل التالية: “بالصدفة” أو “عن غير قصد” ، “دون قصد”، تصبح الأمور أسهل ونتوصل إلى أنّه لا يوجد استنتاج ختامي للصيغة المطلوبة “بالتالي تم ذلك بحرية” أو “بدون حرية”، ومثل الحرية فإنّ الحقيقة هي حد أدنى أو مثال خادع على سبيل المثال: “الحقيقة” أو “الحقيقة الكاملة” أو “ولا شيء سوى الحقيقة حول” “لنقل معركة واترلو أو بريمافيرا”.

يبدو أنّ فكرة أوستن هنا هي أنّ:

  • هناك العديد من الأشكال المحددة للتقييم الإيجابي التي نستخدمها فيما يتعلق بالقول: قد تكون عادلة ومعقولة ودقيقة ومتقنة وكافية ومرضية وما إلى ذلك، فمن المعلوم أنّ أوستن كان سيتخذ كل شكل من أشكال التقييم ليكون مرتبطًا بالمناسبة، فمسألة على سبيل المثال ما سيكون من العدل والمعقول للحكم عليه في هذه المناسبة بالذات.
  •  عندما نقول إنّ ما ورد في تصريح ما صحيح، فإننا نقول في الواقع إنّ التصريح يلبي شرط الحد الأدنى المجرد لكونه عرضة لأحد هذه الأشكال المحددة للتقييم الإيجابي، كما إنّه متوافق مع هذا النوع من النظرة إلى أنّ مفهومنا لطبيعة ما نقوله يرتبط بمفهومنا للظروف التي تكون فيها تصريحاتنا، وما نعلنه بذلك عرضة لشكل أو آخر من أشكال التقييم الإيجابي.
  •  إلى هذا الحد فإنّه يختلف عن بعض أشكال الانكماش الأقوى التي لا يلعب فيها أي وضع متعلق بالحقيقة للتقييم الإيجابي دورًا توضيحيًا غير مشتق.

علاوة على ذلك يمكن أن تتخذ وجهة النظر أشكالًا جذرية أكثر أو أقل، حيث يتعامل شكله الأكثر جذرية مع الحقيقة على أنّها مجرد فصل للأنماط الأكثر تحديدًا للتقييم الإيجابي، مع عدم وجود قواسم مشتركة أساسية موحدة بين تلك الأنماط المحددة.

سيكون هذا الرأي شكلاً مميزًا من الانكماش حول الحقيقة، لأنّه سيرفض فكرة أنّ الحقيقة في حد ذاتها تلعب دورًا أساسيًا في التفسير، كما يسمح شكلها الأقل راديكالية بأنّ الحقيقة قد تفرض شرطًا ضروريًا موحدًا على الأنماط المحددة للتقييم الإيجابي، وبالتالي تلعب دورًا أساسيًا من خلال حكومتها للأنماط المحددة في شرح ما هو مذكور في البيانات، ولن يعتبر الشكل الأخير لوجهة النظر شكلاً مثيرًا للاهتمام من الانكماش على الرغم من أنّه قد يكون موقفًا مثيرًا للاهتمام في حد ذاته.

يناقش أوستن مجموعة مهمة من الطرق التي يمكن أن يغطي بها تقييم الحقيقة مجموعة متنوعة من أساليب التقييم الأكثر دقة في كتابه كيف تتحدث (How to Talk) في عام 1953.

فلسفة أوستن للحقيقة بين الدفاع والنقد:

لا يدعي أوستن التعميم لحساب الحقيقة التي يرسمها، ومع ذلك من الطبيعي أن نتساءل إلى أي مدى يمكن للحساب أن يتوسع بشكل طبيعي ليأخذ أنواعًا من العبارات التي لا يحاول صراحة إدخالها في نطاق اختصاصه، حيث تتضمن نقاط الضغط المحتملة هنا العبارات التي يتضمن تعبيرها النفي أو التحديد الكمي أو الشروط الشرطية وبيانات الحقائق الضرورية.

فيما يلي الخيارات الثلاثة الرئيسية المفتوحة لمدافع أوستن:

  •  أولاً قد تُبذل محاولة لجعل بعض القضايا في نطاق التعميم الطبيعي لرواية أوستن.
  • ثانيًا قد يُسمح بأنّ بعض هذه الحالات تتطلب علاجًا مميزًا، لكن جادل بأنّه لا يزال من الممكن ربطها بالحساب الذي يقدمه أوستن كأنواع أخرى من جنس الحقيقة.
  •  ثالثًا قد تُبذل محاولة للقول إنّ بعض هذه الحالات مميزة جدًا لدرجة أنّ أشكال التقييم الإيجابي المناسبة لها ليست في الحقيقة أشكالًا من تقييم الحقيقة.

شارك المقالة: