في عام (٣١٧هـ – ٩٠٨م)، وتحديداً في اليومِ الثامنِ من ذي الحِجّة( يوم التَّروية)، قام أبو طاهر القُرمُطيّ، ملك البحرين وزعيم القَرامطة، بغارة على مكة المُكرّمة، والناس مُحرِمُون، فاستباحَ المسجد الحرام، وقتلَ عدداً كبيراً من الحُجّاجِ؛ ووضعَ جُثَث بعضهِم في بئرِ زمزم، واقتَلعَ الحجر الأسود من زاوية الكعبة المُشرّفة، ونادى بأعلى صوتهِ وقال:” أنا باللهِ؛ وباللهِ أنا؛ يَخلُقُ الخلق، وأُفنِيهِم أنا”.
من هم القَرامطة؟
القَرامطة فِرقة سياسية دينية من غُلَاة الشِّيعة، أسَّسهَا رجلٌ يقال له حمدان بن الأشعَث؛ المُلقَّب بِقُرمط بسببِ احمِرارٍ دائم في عَينَيهِ؛ وهو إسماعيليّ العقيدة، والإسماعيلية فرقة شيعية مُتطرّفة،
وكانت القرامطة قوة عسكرية بدوية تَعتمد فى حياتها على الغَارات التى تَشنّها على الدول المجاورة، وعلى قطعِ الطريق، وكانوا من ألَدِّ أعداء العباسيّين، أي كانوا في زمنِ حُكمِ الخلافةِ العبّاسيّة.
مذبحة البيت الحرام، أو مذبحة الحجيج
في عام ٣١٧ هجرية هاجم القرامطة مكة المكرمة التى كانت تَتبَع الخلافة العباسية؛ وبدأ الهجوم على البيت الحرام في يوم التَّرويّة، اليوم الثامن من ذي الحجّة؛ حيث قام أبو طاهر القُرمطيّ، زعيم القرامطة في تلك الفترة بالدخول إلى البيتِ الحرامِ، وإلى صحن المَطافِ تحديداً، وصفَّرَ لحصانهِ وبالَ بجانب الكعبة؛ ثُمَّ أمرَ أحد رجالهِ بالصّعودِ على ظهرِ الكعبة وأمرهُ بأن يَقلَع مِيزَاب الكعبة، فسقط هذا الرجل من على سطح الكعبةِ ومات من فَورهِ؛ وضَجَّ الحجيج وغضبوا لذلك الأمر، فأمرَ رجاله بأن يقتلوا كلّ من يعترض على فعلهِ، حتى تراكمت جثث الحجيج داخل البيت الحرام؛ وألقِيَت العشرات من هذه الجُثث في بئر زمزم.
ويذكر ابن كثير_ رحمه الله_، في أحداث سنة ٣١٧ هجرية، فيقول:” أنَّ أبو طاهر القرمطي أمرَ أنْ يُقلع الحجر الأسود من مكانهِ، فجاءه رجل فضربه بِمَثقَلٍ في يده وقال: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟؛ ثمَّ قال: أنا بالله؛ وبالله أنا؛ يَخلُق الخلق؛ وأفنِيهم أنا.
ثم قلع الحجر الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم ثِنتَين وعشرين سنة حتى رَدّوه؛ وانتزعوا باب الكعبة، وقاموا بأعمال دمويّة بَشِعة فقتلوا من الحُجّاج ما يقارب من ثلاثين ألفاً، ثم عادوا لديارهم؛ وحاولوا أيضاً سرقة مَقام إبراهيم_ عليه السّلام_، ولكنَّ سَدَنَة البيت الحرام أخفوه”.
ولما رجع القرمطي إلى بلاده ومعه الحجر الأسود، تَبِعهُ أمير مكة” ابن مَحلَب”، هو وأهل بيته وجنده، وسأله وتَشفَّع إليه أنْ يردَّ الحجر الأسود ليوضع في مكانه، وبذل له جميع ما عنده من الأموال فلم يلتفت إليه، فقاتله أمير مكة فقتله القُرمطي وقتل أكثر أهل بيته وأهل مكة وجنده، واستمر ذاهباً إلى بلاده ومعه الحجر وأموال الحجيج.
وقيل أنَّ الحجر الأسود نقِلَ على عشرين جَمَل عند سرقتهِ، فكلّما هلك جمل، حُمِلَ على ظهرِ جملٍ آخر، حتى وصل إلى منطقةِ هَجَر بالإحساء؛ وظَلَّ الحجر الأسود معهم فى الإحساء لمدة ٢٢ عاماً، يطوفُ الناس حول الكعبة ولا يجدون الحجر الأسود، فيبكون ويَتَضرّعون إلى الله تعالى أن يُعيد الحجر الأسود إلى مكانهِ.
وأرسِلَ الحجر الأسود إلى منطقةِ هَجَر من ضمن الأحساء؛ وفي عام ٣١٨ هـ تقريباً، سُنّ الحج إلى منطقة الجَشّ بالقَطِيف بعدما وضع الحجر الأسود فى بيت كبير بجانبِ عين ماء تُدعى عين الكُعيبة، وأمر القرامطة سكان منطقة القَطيف بالحج إلى ذلك المكان، ولكنَّ الأهالي رفضوا تلك الأوامر، فقتل القرامطة أناساً كثيرين من أهل القطيف.
استِرجاع الحجر الأسود
ظلّ الحجر الأسود بِحَوزة القرامطة مدّة ٢٢ سنة، ولم تُجدِ كل المحاولات والمسَاعي التي بذلها العباسيون والفاطميون من أجل الضغط على القرامطة وإجبارهم على إعادة الحجر الأسود، وقد عرض الخلفاء على القرامطة مبلغاً قدره ٥٠ ألف دينار مقابل إرجاعهم للحجر الأسود، لكنّ القرامطة ظَلّوا يَخوضُون فى عنادهم.
ويقول ابن سنان الذى كان معاصراً لتلك الأحداث:” لقد عُرِضَت الكثير من الأموال على القرامطة كثمن لردّهم الحجر الأسود، لكنّهم رفضوا كلّ تلك العروض، وكان السبب الحقيقي وراء امتثال القرامطة للأمر هو التَّهديد الذى وجّههُ الخليفة المَهديّ الفاطمي إليهم ممّا أجبرهم على ردّ الحجر الأسود إلى مكّة ثانية، وعاد الحجر الأسود إلى مكّة سنة (٣٣٩ هجرية)؛ وقد حَملهُ رجل من القرامطة يُدعى سُنبر وهو صِهر أبوسعيد القرمطي، زعيم القرامطة في هذه الفترة، على ظهرِ جملٍ واحد، ويُقال إن الحجر الأسود حُمِل قبل إرجاعه إلى مكّة إلى الكوفة ونُصِبَ في العمود السابع لمسجد الكوفة حتّى يتسنّى للنّاس رؤيته، وقد كتب أبو سعيد القُرمطيّ رسالة جاء فيها: أخذناهُ بقدرة الله ورَددنَاهُ بمشيئة الله.
ولمّا رُدَّ الحجر الأسود إلى مكّة كان أمير مكّة حاضراً مع حَشدٍ من أهلها، وأرجع سُنبر الحجر بيديه إلى مكانه، وقيل إنَّ رجلاً يُدعى حسن بن مُزوّق البَنَّاء؛ قام بنصب الحجر عند جدار الكعبة وأحكَمَ مكانه بالجَصّ.