صَاحبُ مَثلنَا شاعرٌ عربيّ جاهليّ اتّصَفَ بالوَفاءِ حتّى ذاعَ صِيتهُ على ألسِنةِ القاصِي والدّاني. إنّهُ السَّمؤال بن غُرَيض بن عَادِيَاء الأزديّ، واسمهُ(السّموأل) اسمٌ عِبريّ مُعَرّب، وكان يُلفَظُ بالعبريّة(صاموئيل)؛ وهو من أتباعِ الدِّيانة اليهوديّة، كانَ حكيماً من حُكماءِ العَرب القُدامى؛ وهو من يهودِ خَيبَر، سَكَنَ في خَيبر، وكان كثير التَّنقلِ بين خيبر وبين الحِصنِ الذي بناه جَدّهُ عَادياء في منطقةِ تيماء في الجزيرةِ العربية(السعودية) والذي أسْمَاهُ الأبْلَق.
السَّموأل مع إمرئِ القيس
إنَّ للسَّموألِ هذا قصَّة مشهورة جَعَلتهُ مَضرَب المثلِ في الوفاء، وتدورُ أحداثُ قصتهِ هذهِ مع الشّاعرِ المشهورِ صاحبِ إحدى مُعلّقَات الشّعرِ العربيّ؛ إنّهُ الشّاعر إمْرئ القيسِ بن حُجُر الكِنديّ؛ وتقولُ الرّواية إنَّ امرأ القيس بعدما قُتلَ أباه الملك حُجُر الكِنديّ أرادَ الذَّهاب إلى قيصرِ الرّوم طلباً للمساعدة والنّجدةِ ليأخذَ بِثأرِ أبيهِ المقتول.
ولمّا عَزَمَ على الرّحيلِ إلى قيصر ملك الروم، أوْدَعَ عندَ السَّموألِ بن عادياء اليهودي، دُروعاً وسِلاحاً وأمتعةً تساوي من المال جُملةً كثيرةً، وهي من التي وَرثهَا والِدهُ المَلِك الكِنديّ عن مُلوكِ مملكةِ كِندة، وأخذَ عليه العَهد ألّا يُسلِمهَا لغيرهِ أو أحدِ وَرَثتهِ.
ثمّ سارَ ومعه عَمرو بن قُميئَة، أَحَد بني قَيس بن ثَعلبَة، وكان من خَدمِ أبيه، فبكى ابن قُميئَة؛ وقال له: غَرّرتَ بِنا. فأنشأ امرؤ القيس يقول:
بَكى صَاحِبي لَمَّا رأى الدَّرْبَ دُونه ……. وأيقنَ أنا لاحِقَانِ بقَيْصَرَا
فَقُلتُ لَهُ: لا تَبْكِ عَيْنُكَ إنّمَا ………..نحاوِلُ مُلْكًا أوْ نموتَ فَنُعْذَرَا
وَإني زَعِيمٌ إنْ رَجَعْتُ مُمَلَّكاً ……….بسَيْرٍ تَرَى مِنْهُ الفُرَانِقَ أزْوَرَا
ووصلَ امرؤ القيس إلى قيصر ملك الروم، فأكْرمَهُ ونادمَهُ، وطلبَ منه العَونَ والمُساعدةِ فوعده ذلك، ثمّ بَعثَ معه جيشاً فيهم أبناء ملوك الروم، فلمّا ابتعدَ إمرئ القيسِ قليلاً عن مملكة الرّوم، قيلَ لقيصر: إنّك أمْددّتَ هذا العربيّ جيشاً فيه أبناء مُلوكِ الرّوم، وهم أهل غَدرٍ، فإذا استَمكنَ مِمَّا أرادَ قَهرَ بهم وقَتَلهم؛ فبعث إليه قيصر بحُلَّةٍ مَنسوجةٍ بالذَّهبِ مَسمُومَة، وكتب إليه: إنّي قَد بَعثتُ إليك بِحُلَّتي التي كنت ألبَسهَا يوم الزِّينة، لتَعرفَ فَضلَ مَنزِلتكَ عندي، فإذا وَصَلَت إليك فَالبَسهَا على اليُمن والبرَكة، واكتب إليَّ من كلِّ منزلٍ بِخَبرِك. فلمّا وصَلت إليه الحُلَّة اشتدَّ سُرورهُ وفَرحَ بها، وَلَبسهَا، فدخَلَ السُّمُّ في جَسدهِ وتَنفَّطَ جِلدهُ ومات في أرضِ الرّوم.
مَلك الحِيرة يقتلُ ابنَ السَّموأل
فعندما علِمَ ملكُ الحِيرة “الحارثُ بن أبي شمّر الغَسّاني” بموتِ الشاعر إمرئ القيس طلبَ الدُّروع والسلّاح من السّموأل وألَحّ في طَلبِها، فأبَى السّموأل أنْ يُعطِيهَا ويبعُثهَا إليه. فجَهّزَ هذا الملك جيشاً وسَارَ إلى السموأل، فلمّا وصلَ الجيشُ إلى حِصنِ السموأل، قامَ فأغلقَ الحصن على نفسهِ وأهلهِ؛ فنادى عليه الملك الحارث أنْ ابعثْ لنا الدّروع والسّلاح، حتى لا نُضطرَّ إلى هدمِ الحِصنِ وقَتلِكم؛ فأبى السموأل ذلك وقال: لنْ أسَلّمهَا لكم حتى يأتِي صاحِبهَا أو ورَثتهِ. وصَادَف ذلك أنَّ ابناً للسّموألِ كان في خارجِ الحِصْنِ يتَصَيّد، ولمّا عادَ أمسكَ بهِ جيش الحارث الغسّانيّ، فنادى على والدهِ السموألِ وقال له: إنَّ ابنكَ معَنَا، وإنْ امرئ القيس ابن عمّي ونحنُ وَرثتهُ، فإنْ شئتَ أنْ نُطلقَ سراحَهُ فابعثْ إلينا بِمتاعِنَا وسلاحنَا؛ وإنْ أبَيتَ سأفْصِلُ رأسهُ عن جسدهِ أمام عَينيك، فأختارَ السّموألُ الوفاء بِذمّتهِ وعهدِهِ، حتى ولو كان على حِساب ِ ابنهِ، فقامَ الملك الحارث الغسّانيّ بذبحِ ابنِ السموألِ أمام أبيه؛ وانتظرَ السّموألُ ورثَةَ إمرئ القيس حتى جاءوه وأخذوا متاعَهم وسلاحهم، ومن وقتِها ضُربَ به المَثل بالوفاء بذمّتهِ وعهده؛ وفي ذلك قال عن نفسهِ:
وفيتُ بأدرُعِ الكِنديِّ إنّي إذا ما خانَ أقوامٌ وَفيتُ
وقالوا إنّه كنزٌ رغيبٌ ولا والله أغدرُ ما مشيتُ