لكل شعب من شعوب الأرض ثقافته الخاصة به، والتي تميزه وتجعله يتفرد عن غيره، كما أن الشعوب ترتبط بمخزونها اللغوي الذي يعبر عن المواقف التي تمر عبر العصور والأزمنة، وقد تطورت لغة وآداب الإنسان من عصر إلى عصر، ومن حديث إلى أحدث، غير أن الأمثال الشعبية والفصيحة بقيت مرتبطة بالإنسان ومستمرة، فنجد الأمثال على إيجازها وخفتها رفيقة الإنسان في المواقف والأحداث المختلفة، تصوّرها وتصفها وصفًا دقيقًا، وهي الأمثال ذاتها التي استخدمها الآباء والأجداد، دون تطور أو تقدم، إنما تُعدّ عند الكثيرين مرآة للحكمة وملاذًا يلجأ إليه المرء عند الحاجة، فإما أن يكون استخدامها للاتعاظ بها، أو لتوجيه النصح للآخرين.
أصل مثل ان غدا لناظره قريب:
مثل “إنّ غدًا لناظره قريب” مأخوذ من بيت الشعر لـ”قراد بن أجدع الكلبي”، ويقول فيه: “فإن يك صدر هذا اليوم ولّى فإنَّ غــداً لناظرهِ قريـبٌ”، وهذا المثل يُضرب في الوفاء بالوعد، حتى وإن كان فيه هلاك للروح.
قصة مثل ان غدا لناظره قريب:
يُروى عن النعمان بن المنذر أنه كان يهوى الصيد، وكان عنده فرس سريعة العدو اسمها “اليحموم”، وكما أن النعمان كان يحبّها كثيرًا ويستخدمها في الفروسية والتجوال والصيد، وفي يوم من الأيام بينما هو على ظهر اليحموم، إذ لمح حمارًا وحشيًّا، فعزم على اصطياده، فطارده، وظل خلفه يطلبه إلى أن فقد أثره، وأدرك النعمان أنه قد تاه في الصحراء، وضلّ طريق العودة، وبينما هو في حيرته لمح خيمة مضروبة في البعيد، فقصدها، فلما دنا منها لمح داخلها رجلا مع امرأته، وأحس الرجل وزوجته بحركة الفرس خارج الخيمة، فخرجا لاستطلاع الأمر، فإذا بهما في حضرة النعمان بن المنذر ملك الحيرة، ولم يكونا يعرفانه، وقام الأعرابي بإكرام النعمان أقصى ما استطاع، ولما أصبح النعمان، لبس ثيابه، وركب فرسه، ثم قال: يا أخا طيء اطلب ثوابك أنا النعمان، قال الطائي: أفعل في المستقبل إن شاء الله، ثم مضى النعمان ولحق بالخيل إلى الحيرة.
غاية في الغرابة أن يُسمي امرؤ أحد أيام حياته وسنين عمره باسم كيوم البؤس، غير أن الدهشة والاستغراب يزولان، إذا ما عُرف أن هذا الشخص هو النعمان بن المنذر، وليس للمفاجأة محلّ إذا ما علمنا أنه ما من أحد يأتي إليه في هذا اليوم المشؤوم إلا وقتله، والسبب في أن سنّ النعمان يوم البؤس ذاك، أنه قد شرب الخمر حتى سكر وثمل، وكان له نديمان أحدهما اسمه “خالد بن المضلل”، والآخر اسمه “عمرو بن مسعود بن كلدة”، فأمر بقتلهما في لحظة السكر تلك، ولما أفاق من سكره، وعرف ما اقترفت يداه، حزن حزنًا شديدًا، لأنه كان يحبهما حبًّا جمًّا، فأمر بدفنهما، وأمر بأن يبنى عليهما بناء طويل عريض سماه العزيان، وجعل لنفسه كل عام يوم بؤس، ويوم نعيم يجلس فيهما بين العزيين، فمن جاءه يوم نعيمه أكرمه وأجزل العطاء له، ومن جاءه يوم بؤسه قتله دون إشفاق أو رحمة.
مكث الطائي بعد إغاثته للمنذر زمانًا حتى حدثت له نكبة وجهد، فأشارت عليه امرأته، بأن يذهب إلى المنذر يطلب مساعدته، وبالفعل توجّه إلى المنذر يسأله المساعدة كما قدمها له يومًا، فلما رآه النعمان، أصابه الحزن الشديد على ذلك الرجل الذي أكرمه، حيث أنه كان يريد الإحسان إليه كما أحسن إليه الرجل، غير أن الله شاء أن يصل حنظلة القادم من عمق الصحراء، إلى قصر النعمان في يوم بؤسه، أدرك النعمان أن مصير الرجل الذي أكرمه هو الموت، فقال له النعمان: يا حنظلة هلا أتيت في غير هذا اليوم؟ فقال حنظلة: أبيت اللعن لم يكن لي علم بما أنت فيه، قال له النعمان بن المنذر: فاطلب حاجتك من الدنيا، وسل ما بدا لك فإنك مقتول، قال له الأعرابي: أبيت اللعن وما أصنع بالدنيا بعد موتي؟ فأجلني حتى أعود إلى أهلي، فأوصي إليهم وأقضي ما علي ثم أنصرف إليك.
طلب النعمان إلى حنظلة أن يقيم له كفيلًا، فقال: يا أخا النعمان يكفيك اليوم عن شيخ كفالة ابن شيبان، كريم أنعم الرحمن باله، غير أن أبا شريك رفض أن يكفله، وكان من بين الحاضرين قراد بن أجدع الكلبي، فضمنه، قام النعمان بإعطاء حنظلة بعض المال، ليمضي مودّعًا أهله، وحدد له موعد العودة، ومضت الأيام ولم يتبقَ على يوم تنفيذ الحكم إلا يومًا واحدًا، وفي ذلك الوقت أرسل النعمان إلى الرجل الذي تكفل الطائي؛ لأنه بذلك سوف يُقتل بدلًا منه، لأنه لم يرجع لتنفيذ الحكم عليه، فاستبطأ الكفيل تنفيذ الحكم قائلًا : “فإن يكُ صدرُ هذا اليومِ وَلَّى فإن غدًا لناظره قريب”.
في صبيحة اليوم التالي، خرج النعمان بن المنذر مع رجاله وهم يبيّتون النية المؤكدة لقتل كفيل الطائيّ، ثم إنه قام بأمر رجاله بقتل الرجل الكفيل، وعندما حان موعد القتل قدم وزراء النعمان إليه، وأخبروه أنه لا يمكن له أن يقتله إلا عند انتهاء اليوم، وبالفعل تراجع النعمان عن قرار القتل، وعند غروب الشمس رأى النعمان ورجاله رجلًا قادمًا باتجاههم، غير أنهم لم يتبينوا من هو، عند ذلك أمر النعمان بقتل القادم، إلا أن رجال النعمان المقرّبين، قالوا: أنه لا يمكن له قتل الرجل قبل أن يتعرفوا على هويته، وعندما اقترب الرجل تفاجأ النعمان أنه كان حنظلة الطائي قد عاد لتنفيذ حكم القتل.
عندما رأى النعمان بن المنذر حنظلة حزن حزنًا شديدًا، لدرجة أنه كان رغب في قتل الرجل الذي تكفل بالطائي؛ حتى ينجو ولا يُقتل، فقال له: “ما الدافع وراء رجوعك بعد أن فررت من القتل؟، فقال له الرجل: إنه الوفاء، حينذاك تأثر النعمان بالذي قاله الرجل وبفعلته، فما كان منه إلا أن قرر العفو عنه وعن الرجل الذي تكفّل به مسبقًا، ولم يقتل أيّ واحد منهما، كما أنه تراجع عن قانونه الذي سنّه، وما عاد قتل أحدًا بعد ذلك اليوم، وبذلك نتعلم قيمة الوفاء في حياتنا ومعاملاتنا حتى في أبسط حروفنا وكلماتنا وأفعالنا.