اعتراضات على الموضوعية في فلسفة راسل

اقرأ في هذا المقال


كتب برتراند راسل: “عندما كنت صغيرًا اتفقت مع جورج إدوارد مور في الإيمان بموضوعية الخير والشر، ودفعني نقد سانتايانا في كتاب بعنوان (رياح العقيدة)، إلى التخلي عن هذا الرأي، على الرغم من أنني لم أستطع أبدًا أن أكون لطيفًا ومريحًا بشأنه كما كان”.

الكتاب رياح العقيدة للفيلسوف جورج سانتايانا:

حيث أنّ راسل قرأ كتاب رياح العقيدة (Winds of Doctrine) في عام 1913، فحتى قبل أن تقلب الحرب العظمى العالم رأسًا على عقب، كانت الحضارة الغربية تحدث ثورة على جميع المستويات فكريًا وفلسفيًا وفنيًا.

فقام الفيلسوف الوضعي الشهير جورج سانتايانا بنشر هذا المجلد عشية الحرب محاولًا تصوير حالة الفلسفة واللاهوت في تلك اللحظة من خلال تحليل ستة موضوعات مهمة وهي:

1- المزاج الفكري للعصر.

2- الصدام بين الحداثة وعلم اللاهوت المسيحية.

3- المثالية الجديدة لهنري بيرجسون.

4- الشكوكية الجديدة لبرتراند راسل.

5- اندماج شيلي للفلسفة والشعر.

6- ما يسمى بالتقليد اللطيف في الفلسفة الأمريكية.

وكقطعة من السيرة الذاتية الفكرية يعد هذا ليس منيرًا جدًا، حيث يزخر كتاب سانتايانا بالسخرية اللطيفة ولكن الحجج واضحة بغيابها، ويجب إعادة بناء أسباب راسل لرفض خاصية غير طبيعية للخير من الجوانب الأدبية، والتي يتم تسليمها بشكل عابر في سياق جدالاته المناهضة للحرب.

الاضطهاد والعقاب وذاتية القيمة:

بالرغم من السخرية اللطيفة التي يقدمها كتاب سانتايانا، فإنّه يعطي سببًا واحدًا وهو ليس للشك في وجود الخير الموراني ولكن لرغبته في ألّا يؤمن به أحد، ففكرة وجود حقائق أخلاقية موضوعية تولد عدم التسامح والتعصب.

ووفقًا لذلك فإنّ رفض هذه الفكرة من شأنه أن يجعل الناس أكثر اجتماعية حقًا، وعلى وجه التحديد أكثر تسامحًا، ويكتب راسل: “الحرب الأخلاقية ستستمر”، لكن ليس بالسهام المسمومة”، وتوصل راسل إلى اتفاق خاصة بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى.

فقد ذكر راسل أنّه كانت محاضرة هربرت سبنسر مستوحاة جزئيًا من الاشمئزاز من الاندفاع العالمي للبر في جميع الدول منذ بدء الحرب، وأوضح أيضًا أنّه يبدو أنّ جوهر الفضيلة هو الاضطهاد، وقد يثير الاشمئزاز من جميع المفاهيم الأخلاقية والتي من الواضح أنّها مفيدة بشكل أساسي كعذر للقتل.

هناك شيء ما متناقض إلى حد ما حول هذا الأمر حيث كان راسل مقتنعًا بشدة بصحة أنشطته المناهضة للحرب: “عندما جاءت الحرب شعرت وكأنني سمعت صوت الله، وكنت أعرف أنّ الاحتجاج هو من شأني مهما كان الاحتجاج غير مجدٍ”.

إذا لم تكن هناك خصائص أخلاقية موضوعية، فلا يوجد شيء اسمه المعرفة الأخلاقية، مما يعني أنّ راسل لا يمكن أن يعرف حرفياً أنّه يجب عليه الاحتجاج، وفي أحسن الأحوال كان بإمكانه أن يعرف أنّه يجب عليه الاحتجاج بالنظر إلى قيمه.

ولكن على الرغم من أنّه يبدو في بعض الأحيان وكأنه يتحدث كما لو كان من الخطأ الموضوعي الإيمان بالقيم الموضوعية، فإنّ موقف راسل أو يمكن جعله متماسكًا، قد تكون حقيقة أنّ الواقعيين الأخلاقيين يميلون إلى أن يكونوا أكثر قسوة وعدم تسامح من النسبيين الأخلاقيين ومعادي الواقعية.

ومن ثم فإنّ أولئك الذين يكرهون التعصب والقسوة لديهم سبب للتقليل من الموضوعية، وكما أوضح راسل نفسه أنّه من ناحيته يود أن يرى في العالم قدرًا أقل من القسوة والاضطهاد والعقاب والاستنكار الأخلاقي مما هو موجود حاليًا، وذلك لتحقيق هذه الغاية يعتقد أنّ الاعتراف بذاتية الأخلاق قد يؤدي ذلك.

تشير كلمة (اعتراف) إلى أنّ ذاتية الأخلاق صحيحة، وبالتالي لا يوجد شيء اسمه خاصية غير طبيعية للخير، ولكن إذا وضعنا كلمة النجاح جانبًا واحدًا فقد يكون من الأفضل لنا الإيمان بذات الأخلاق لأنّ الإيمان بالقيم الموضوعية يؤدي إلى الاضطهاد والعقاب والقسوة والاستنكار الأخلاقي.

كما قد يدفع الناس من حيث السلام والحب والتفاهم إذا صدقوا سمة راسل للعاطفة، ولكن حقيقة أنّ المعتقد يؤتي ثماره بمعنى ما لا يجعله صحيحًا كما كان راسل نفسه يجتهد في توضيح ذلك، لذا حتى لو كان من الأفضل لنا الاعتقاد بعدم وجود قيم موضوعية (في وقت لاحق شكك راسل في الأطروحة)، فإنّ هذا لا يثبت أنّه لا توجد مثل هذه الأشياء.

راسل والحجة من النسبية:

إذن ما هي أسباب راسل لرفض خاصية غير طبيعية للخير؟ إحدى الحجج التي شاعها لاحقًا جون ليزلي ماكي في عام 1977 باسم (الحجة من النسبية)، وتبدأ بتنوع الرأي الأخلاقي والاستحالة المفترضة للإثبات عندما يتعلق الأمر بالقيم النهائية.

إذا كانت آراؤنا بشأن ما يجب القيام به أن تكون عقلانية حقًا، فيجب أن يكون لدينا طريقة عقلانية للتحقق من ماهية الأشياء التي يجب أن توجد على حسابهم الخاص، أي ما هي الأشياء الجيدة، وحول هذه النقطة لا جدال ممكن.

ولا يمكن أن يكون هناك ما هو أكثر من جاذبية الأذواق الفردية، وإذا اعتقد شخص ما على سبيل المثال أنّ العقوبة الانتقامية مرغوبة في حد ذاتها، بصرف النظر عن أي آثار إصلاحية أو رادعة، بينما يعتقد رجل آخر أنّها غير مرغوب فيها في حد ذاتها فمن المستحيل تقديم أي حجج لدعم أي من الجانبين.

الآن بالطبع نتيجة لوجهة نظر راسل اللاحقة على حد سواء تبين هاتين الحجتين:

أ- أنّه من المستحيل وجود حجة عقلانية حول ما هي الأشياء التي يجب أن توجد على حسابها الخاص.

ب- أنّه في مثل هذه النزاعات يمكن أن يكون هناك لا شيء يتجاوز نداء إلى الأذواق الفردية.

ولكن على الرغم من أنّه يمكن المجادلة من العاطفة وعدم وجود الخير الموضوعي إلى حقيقة (أ) و (ب)، فهل يمكن الجدال من (أ) و (ب) إلى عدم وجود الخير الموضوعي؟

أفضل تفسير للحجة هو الاستدلال على أفضل تفسير، وأفضل تفسير لـ (أ) أنّه من المستحيل أن يكون لدى المرء حجة عقلانية حول ما هو جيد أو سيء في حد ذاته، و (ب) أنّه في مثل هذه النزاعات لا يمكن أن يكون هناك شيء غير مناشدة الأذواق الفردية وهي الفرضية (ج) حيث أنّ هناك لا يوجد شيء موضوعي للاختلاف بشأنه لأنّه لا يوجد شيء اسمه الخير، بل إنّ آراؤنا حول هذه الموضوعات تعتمد بطريقة ما على رغباتنا المتباينة وربما نشأتنا المتنوعة أو معبرة عنها.

فهل هذه حجة جيدة؟ الجواب ليس في حد ذاته لا، لأنّه ليس من الواضح ما إذا كانت الأطروحات (أ) و (ب) تمثل حقائق حقيقية، وحتى إذا كانت (أ) و (ب) صحيحة وتمثل حقائق حقيقية، فهل (ج) أفضل تفسير؟

ربما تكون هناك خاصية للخير لكنها خاصية يصعب تمييزها، وبعض الناس أفضل من الآخرين في رؤية ما هو جيد أو سيء، وكما قال راسل نفسه في عام 1909: “إنّ صعوبة اكتشاف الحقيقة لا تثبت أنّه لا توجد حقيقة يمكن اكتشافها”.

ومع ذلك فإنّ الحجة من النسبية تبدو أفضل قليلاً إذا اتبعنا تلميحات راسل وقمنا بدمجها مع حجة العجز التوضيحي.


شارك المقالة: