الأثر المشرقي في شعر ابن خفاجة الأندلسي

اقرأ في هذا المقال


تميزت الأندلس بخصوصيتها الجغرافية والبيئية وكذلك الاجتماعية وكان لها قيمة خاصة، ظهرت على شخصية أهل الأندلس ظهورًا واضحًا، وكانت هذه الشخصية تحمل ملامح شرقية مرافقة لملامحها الأندلسية، ولقد ظهر تأثر الأدب كذلك بهذه الملامح وأصبح يحمل ملامح شرقية كذلك، أصبح أدبًا هجينًا، فغالبًا ما نرى الشعر الأندلسي يعبر عن الحياة الأندلسية وجمالها ولكنه يحمل تأثيرات فنية مشرقية، وهذا ما سنتناوله في هذا المقال وهو بيان هذا الأثر في شعر شعراء الأندلس.

الأثر المشرقي في شعر ابن خفاجة الأندلسي

تأثر الشاعر ابن خفاجة بمجموعة من شعراء المشرق، وكان يتمثلهم ويحاكيهم في أشعارهم، ومن هؤلاء الشعراء: الشاعر أبو الطيب المتنبي والشاعر الشريف الرضي، وأيضاً مهيار الديلمي، وقد نفى ابن خفاجة أن تكون أبياته التي قلد فيها شعراء المشرق مأخوذة من أبيات معينة عندهم، بل إن مقطوعات من شعره تصور نهجه في محاكاتهم وتمثلهم.

وبذلك يكون ابن خفاجة أخذ عنهم المنهج والطريقة، أما النظم فهو من صنعه هو، فنرى شعره أندلسي الأصل يحمل بصمات ابن خفاجة الخاصة، حتى إن كان قد استفاد من مسالك غيره، وهذا يعني أنه معجب بهؤلاء الشعراء من جهة، ورغبته في إظهار قدرته الشعرية من جهة أخرى.

أجمع المؤرخون على أن ابن خفاجة شديد التأثر بالشرق ودائرة الشعراء الذين تأثر بهم كبيرة سواء أكانوا ممن صرّح بهم ابن خفاجة، أو ممن تشربهم شعره، ونستطيع حصر الشعراء الذين تأثر بهم ابن خفاجة كما يلي:

1ـ الشعراء الذين تم ذكر أسمائهم في بداية ديوانه، معترفًا أنه يسير على نهجهم مثل المتنبي، وعبد المحسن الصوري، ومهيار الديلمي، والشريف الرضي.

2ـ كذلك الشعراء الذين لم يفصح عنهم رغم تأثره بهم ولم يذكرهم مثل السري الرفاء، وأبو نواس وابن الرومي، وابن المعتز، وكذلك البحتري.

ومسألة التأثر في حد ذاتها تحمل أكثر من بعد، فالشاعر قد يشترك مع غيره في التعبير عن أمر من الأمور أو صفه، غير أن هذا لا يعني أنه ينقل من غيره من الشعراء، حيث أن الأغراض متاحة بين الأدباء، والكون عبارة عن معين لكل الشعراء، ولكن هناك ضوابط وأحكام، المعنى العام مُلك للجميع، أما إذا وضع هذا الغرض بقالب خاص بالشاعر فإن هذا المعنى ينتقل من العام إلى الخاص بالشاعر. كم من شاعر وصف الليل، ولكن ابن خفاجة له طريقته الخاصة في وصفه حيث يقول:

وليل كما مدَّ الغُراب جناحه

وسال على وجه السجل مدادُ

به من وميضِ البرق والجو فحمة

شرار ترامى والغمام زناد

وهكذا فإن التأثر بالمعنى من الأمور التي تحتاج إلى تأن طويل، قبل إصدار حكم بشأن هذا الشاعر أو ذاك، وينبغي التعمق في المعنى العام، الذي بالإمكان أن يتداوله الشعراء جميعًا، من المعنى الخاص والطريقة التي نهجها شاعر معين.

وعند التمعن في شعر ابن خفاجة، وشعر المشارقة نرى أصولًا لهم في شعره، ولقد لوحظ بعد المقارنة بينهم وبين الشاعر ابن خفاجة أنه كان يتكئ على معانٍ جاءت عندهم، وخصوصًا غرض وصف الطبيعة، وهذا الغرض هو الذي اشتهر به ابن خفاجة.

وأما بخصوص الأسلوب وصياغة الألفاظ فهو أكثر وضوحًا، وأسهل تحديدًا فعندما يأخذ شاعر لفظ شاعر آخر، أو ينهج نفس نهجه في صياغة المفردات، يعد من باب التأثر الواضح المباشر، وقد يُحمل على أنه سرقة، وخصوصًا إن أخذه اخذًا صريحًا دون تغيير في صياغته.

وعند النظر في ديوان ابن خفاجة نرى أن الغرض الأساسي في شعره هو الوصف، حيث أنه وصف ظلمة الليل، ولهيب النار، والبرد القارص، والسحاب، والرياض، والمرأة، والخمر، والخيل والطيف وغير ذلك كثير، واختص ابن خفاجة بوصف الطبيعة حتى أنه أطلق عليه اسم جنّان الأندلس، نسبة إلى الجنان التي كان يبدع في وصفها.

وليس مستغربًا أن يتبع الشاعر الأندلسي نظيره المشرقي، هم أصول وجذور لشعره، وهذا لا يمنع أن يتوفر للشعر الأندلسي خصوصيته، فهو يتبع من سبقوه إلى مضمار الشعر، كما أنه يحاول أن يجد لنفسه شيئًا مميزًا له يعبر عن شخصيته وكذلك بيئته، لذلك إن تأثيرات المتنبي وأبو علاء المعري لم يحجر على ظهور العنصر الذاتي الأندلسي، بل تفاعل الشاعر الأندلسي مع تيارات المشرق، فاستوعبها متلاحقة ومزدوجة عندما بدأ بإنشاء نموذجه الشعري.

لجأ ابن خفاجة إلى وصف الطبيعة مع أنه كان شديد الخوف من الموت، ويهاب الغناء، وقد لازمته هذه الفكرة وسيطرت عليه، فبعثت في نفسه المعاني الحزينة مما دفع إلى اللجوء إلى الطبيعة ضمن إساسه بالتغير والتبدل في الكون والإنسان، ولقد رأى الطبيعة ضمن هذا الإطار، تلك الطبيعة التي فُتن بجمالها، فوصف رياضها ومغانيها، وأفجعه موت ما بها من كائنات جميلة مخاطبها وبثها أحزانه.

إن غرض الوصف عند الشاعر الأندلسي أصبح غرضًا مستقلًا مثل المديح، والرثاء، وليس كما عرف عند الكثير من شعراء المشرق، فلقد جاء مضمنًا في أغراض أخرى والبيئة الأندلسية أبرزت هذا الغرض، بوصفه غرضًا مستقلًا، ويأتي وصف الطبيعة في أعلى قائمة هذا الغرض، كما أنه تضمن وصفًا لمجالس اللهو والغناء ومظاهر الترف آنذاك.

ابن خفاجة شاعر الطبيعة ينطلق في وصفها من إحساسه المأخوذ بروعتها، ومن رغبة كامنة لديه، ولدى شعراء الأندلس، في هدف التميز، وتكوين شخصية أندلسية لها طابعها الخاص وتعكس بيئةً جديدةً، والشاعر الأندلسي يتطلع نحو التحديث ويحاول تصميم مظاهر خاصة بالشعر الأندلسي، تميزه عن الشعر المشرقي.

كان تأثر ابن خفاجة بشعراء المشرق وتقليده لهم هي وسيلة لإظهار ابن خفاجة القدرة والبراعة، حيث أنه نهج طريقة شعراء المشرق مثل المتنبي والشريف الرضي وغيرهم، وأبدع في تقليدهم بالإضافة إلى معانيهم ما تجود به موهبته.

إفادة ابن خفاجة من الشعر المشرقي في أغراضه الشعرية

تنوعت المواضيع الشعرية التي كتب فيها ابن خفاجة مثل المديح، والوصف، والزهد، والرثاء وغيره من المواضيع والأغراض المعروفة في الشعر العربي، فهي ذاتها في جميع العصور، ويكتب الأدباء فيها بلغة واحدة.

وابن خفاجة يتناول هذه المواضيع التقليدية، حيث يُعبر عن سيطرة النماذج المشرقية أمامه، وترجع هذه السيطرة إلى انتشار الشعر المشرقي في البيئة الأندلسية، ورافق هذه السيطرة نظرة انبهار للشعر المشرقي حيث أن الشاعر الأندلسي يبجل عظمة هؤلاء الشعراء، وهو على علم أن هذا التقليد هو طريقة للنجاح وتحقيق الذات، ومن جهة أخرى عرف عن الطبيعة الأندلسية أنها طبيعة وفية غير جاحدة تظل متصلة بالماضي العربي، وكذلك الشاعر الأندلسي يجد في المشرق أصلًا له وتاريخًا.

وفي النهاية نستنتج أن شعراء الأندلس لم يتوقفوا عن التأثر بالمشارقة وتقليدهم، بل أجادوا في هذا التقليد، وكانت لهم خصوصيتهم، ساعين إلى إيجاد مكانة راسخة لهم وسط الساحة الأدبية المشرقية.


شارك المقالة: