الأخلاق الرواقية بين الطبيعة البشرية والكونية والتحرر من العاطفة

اقرأ في هذا المقال


تتكون الرواقية من تقليد يمتد لقرون وينطوي على خلاف كبير بين أتباعها، وقد تم رفض البعض من قبل رواقي مهم يدعى أريستو وذلك في وقت مبكر والذي خسر صراعًا لتحديد الحركة، وبالتالي تم اعتباره بأثر رجعي غير تقليدي، وهناك خلافات بين أوائل العلماء أيضًا ولم يتم تتبع سوى عدد قليل منها هنا.

الفلسفة الرواقية والطبيعة:

تلعب الطبيعة دورًا مهمًا في أخلاقيات أفلاطون وأرسطو لا سيما في التناقض بين الطبيعة والاتفاقية، ولكن الطبيعة كمبدأ تنظيمي مركزي في النظرية الأخلاقية انطلقت في العصر الهلنستي، وبالنسبة للرواقيين يظهر هذا في صيغتهم للنهاية النهائية أي العيش وفقًا للطبيعة، ويفهم كلينثس الطبيعة هنا على أنّها طبيعة كونية، بينما يفهم جيليبوس كلاً من الطبيعة البشرية والكونية.

يأتي أحد النداءات الرئيسية للطبيعة البشرية في شكل حجة المهد، والتي تستخدم سلوك الأطفال غير الاجتماعيين لتحديد ما هو طبيعي وليس مجرد تقليدي، ويقول الرواقيون إنّ المولودة أولاً تجد نفسها ودستورها متجانسين (oikeion)، لذلك لديها دافع للحفاظ على نفسها ودستورها، وهكذا يجد المولود أنّ كل ما يحافظ على نفسه ودستورها مناسبًا ولديه دافع تجاههما، حيث تجد كل ما يدمر نفسها ودستورها غير ملائم ولديها اندفاع بعيدًا عنهما.

كما يشتمل دستورنا على القدرات الجسدية والنفسية والاجتماعية، وفي البداية هذه غير معقدة، فيمكن للطفل أن يرفرف أطرافه، ويدرك ما يحيط به ويطلب الطعام من القائمين على رعايته، فكل هذه القدرات طبيعية بالنسبة لها ومتناسقة معها ولديها دافع لممارستها والحفاظ عليها، وباختصار الطفل غير الفاسد وقدراته وممارسة تلك القدرات وكل ما يؤدي إلى الحفاظ عليها وممارستها لنفسها وقدراتها لها قيمة بالنسبة لها، وجميع الأضداد لها عدم القيمة.

بعد ذلك يرسم الرواقيون تطور المزيد من القدرات الجسدية والنفسية والاجتماعية ويمكننا أن نقف ونمشي ونركض، كما يمكننا إبعاد أنفسنا عن المظاهر وتقييم ما إذا كانت الأشياء كما تبدو، ويمكننا الدخول في علاقات متبادلة مع الآخرين، وهذه التطورات طبيعية بالنسبة لنا، فما زلنا نجد أنفسنا ودساتيرنا النامية متجانسة ولدينا دافع لممارسة والحفاظ على أنفسنا ودساتيرنا، ومرة أخرى كل هذه الأشياء لها قيمة بالنسبة لنا والأضداد لها قيمة.

بعض الجوانب النفسية الأساسية في تكويننا هي القدرة على تلقي الانطباعات (لكي تبدو الأشياء بطريقة معينة)، حيث القدرة على الموافقة على الانطباعات وبالتالي تكوين المعتقدات أو عدم الموافقة عليها، والقدرة على تلقي انطباعات يمكن إدراكها (انطباعات حقيقية لا يمكن أن تكون خاطئة)، والقدرة على التمييز بين الانطباعات التي يمكن فهمها من غير القابلة للفهم، والموافقة على الأولى ولكن ليس الأخيرة، فينتج عن الموافقة على انطباع يمكن إدراكه فهمًا (katalêpsis)، والذي يشكل وعيًا معصومًا عن الخطأ لجزء صغير من الواقع.

القبضات هي (معيار الحقيقة) الرواقي -المعيار المناسب لأي استفسار أو حجة- لكنها لا ترقى إلى مستوى المعرفة، فتتطلب المعرفة الاستقرار حتى في مواجهة الفحص الديالكتيكي (كما فعلت مع أفلاطون)، ويتطلب ذلك الموافقة فقط على الانطباعات القابلة للفهم وتنظيم فهم المرء في بنية تفسيرية مستقرة، وهذا يضع سقفًا عاليًا للمعرفة (وللفضيلة كما يتماهى الرواقيون مع المعرفة).

الفلسفة الرواقية والطبيعة الكونية:

لا بد من أنّ الطبيعة البشرية كما هو معلوم لدى كلينثس وكريسيبوس اللذان يعتقدان أنّ نهايتنا تتضمن العيش وفقًا للطبيعة الكونية، وعليه فإنّ الفيزياء (معرفة الطبيعة بشكل عام) هي فضيلة، ولكن ما مدى ارتباط معرفة الكون بالأخلاق تحديدًا؟ إنّ ذلك يعمل بطريقتين على الأقل وهما:

1- أولاً الرواقيون هم مؤمنون بوحدة الوجود، بحيث تكشف دراسة الطبيعة أنّها منظمة بشكل تدريجي، وأنّ الكون هو ببساطة الله، ويتطلب ترتيب الله النافع للكون (أي لجسد الله) أن يكون الله صالحًا وفاضلاً، وبالنظر إلى ندرة حكماء البشر فإنّ الفيزياء هي دراسة الشيء الفاضل الوحيد الجيد الذي نعرفه.

2- ثانيًا يستخدم الرواقيون الحكم الإلهي للكون ودورنا كأجزاء منه للدفاع عن استنتاجات أخلاقية، خاصة أننا يجب أن نقدر المصلحة المشتركة أكثر من مصالحنا.

يستخدم كريسيبوس صورة ملفتة للنظر وهي: لنفترض أنّ أقدامنا كانت عقلانية، عندها ستفهم القدم العقلانية نفسها على أنّها جزء من كائن عقلاني أكبر وتتصرف وفقًا لذلك، على سبيل المثال نظرًا لفهم القدم لما هو ذا قيمة بالنسبة لجميع أجزاءها، قد ترغب القدم في بعض الأحيان في التعكير، وقد ترغب القدم حتى في البتر إذا كان البتر هو السبيل الوحيد للحيوان العقلاني بأكمله للاستمرار في أفضل طريقة

لكن كل كائن بشري هو في الواقع جزء عقلاني من كل عقلاني وهو الكون، ولذلك نظرًا لفهمنا لما هو ذو قيمة للكون ككل، يجب أن نرغب أحيانًا في التخلص من اللامبالاة وحتى في بعض الأحيان أن نموت، حتى يتمكن الكون بأكمله من الاستمرار بأفضل طريقة.

الفلسفة الرواقية ومفهوم العاطفة:

كمذهب أخلاقي فإنّ هدف الرواقية هو التحرر من العاطفة (بالمعنى القديم للكرب أو المعاناة) من خلال السعي وراء العقل واللامبالاة، حيث إنّه يعلم اللامبالاة ورد الفعل السلبي للأحداث الخارجية (على أساس أنّه لا يوجد شيء خارجي يمكن أن يكون جيدًا أو شريرًا) ورباطة جأش في مواجهة ارتفاعات وانخفاضات الحياة.

هنا من الممكن فهم وجهة النظر التي غالبًا ما ترتبط بالأخلاق الرواقية ألا وهي الدعوة إلى التحرر من العواطف (الفتور)، وهذا لا يعني أنّه يجب ألّا تكون لدينا حياة عاطفية على الإطلاق، فالرواقيون لديهم تعريف تقني للعواطف (pathê) على أنّها أحكام جديدة ضعيفة على أنّ شيئًا ما جيد أو سيئ، حيث يكون الحكم جديدًا عندما يتم الموافقة عليه حديثًا، بينما يكون الحكم ضعيفًا عندما يكون غير مستقر وغير معروف حتى لو كان صحيحًا.

أعلى أربعة أنواع من العاطفة هي اللذة والألم والرغبة والخوف، وتمثل المتعة والرغبة أشياءهم على أنّها جيدة في الحاضر والمستقبل على التوالي، بينما يمثل الألم والخوف أشياءهم على أنّها سيئة في الحاضر والمستقبل، ويمتلك الحكيم نسخًا جيدة من ثلاثة من هؤلاء الأربعة وهما: الفرح (الابتهاج المعقول) والرغبة (الاختيار المعقول) والحذر (التجنب المعقول)، حيث إنّهم يتجاهلون أي نسخة جيدة من الألم مما يشير إلى أنّ المشاعر الجيدة (eupatheiai) هي أحكام قوية ومعروفة حول ما هو جيد وسيئ، ولا يتم توجيهها أبدًا إلى غير المبالين والمفضلين.

الحكيم بحكمه لن يحكم أبدًا على أنّ أي شيء ليس جيدًا ولا سيئًا، -على سبيل المثال أي مفضل أو غير مبالٍ- هو إما جيد أو سيء، وعلاوة على ذلك فإنّ الحكيم ليس سيئًا أبدًا ولكنه قد يصبح سيئًا مرة أخرى، لذلك فهي حذرة بشكل مناسب بشأن الأشياء السيئة في المستقبل، لكنها لن تواجه أبدًا تأثيرًا سلبيًا موجهًا لسوءها الحالي، وطالما أنّها حكيمة فهي فاضلة وجيدة وسعيدة وليست شريرة وسيئة وبائسة.

المصدر: Ancient EthicsA History of Ethics since the Ancient WorldJ. Annas and R. Woolf, Cicero: On Moral Ends (Cambridge: Cambridge University Press, 2001).C. Brittain, Cicero: On Academic Scepticism (Indianapolis: Hackett Press, 2006).


شارك المقالة: