الأمثال مرآة حكمة الشعوب

اقرأ في هذا المقال


حقيقة تستوقف القراء والدارسين كثيرًا في تراثنا القديم، ويزخر بها إنتاج أشهر الأعلام في العصر الحديث، وهذه الحقيقة هي أن هناك تلاقيًا كبيرًا متعددًا في الفكر والثقافة والمواقف بين الأجيال، بل بين الأوطان والثقافات، ولعل الأمثال في ثقافتنا عظيمة الثراء، ولا شك أن لها مثيلًا في معناها في الثقافات الأخرى، غير أن للأمثال في لغتنا العربية سمتًا خاصًا، ولنا فيها تذوق متميز.

الأمثال بين العرب وثقافات الشعوب:

من الأمثال المشهورة لدى العرب مثل “من شابه أباه فما ظلم“، والإنجليز يقولون : “الابن شبيه والده”، غير أن المثل العربي وفيه كلمة “ما ظلم” تعطيه بُعدًا كبيرًا، أي أنه ما ظلم نفسه في ثبات أصله، فهو شبيه والده، ما ظلم والده فهو مثيل له في شكله وكيانه، ما ظلم الحقيقة فهو شبه أبيه في كثير من سماته، وهكذا يستطيع المرء أن يضع تفسيرات واسعة تدل على كلمة “ما ظلم”.

إذا خرج المرء من إطار وطنه إلى أوطان أخرى، سيجد أن هناك كذلك تشابهًا في مضمون الأمثال وأهدافها، وإن اختلفت بعض ألفاظها، ومن أمثالنا العربية المعروفة: “من لدغه الثعبان خاف من الحبل”، وهو في قول آخر “من نهشته الحية حذر الرسن الأبلق”، وقد جاء في ترجمة بيت لشاعر غربي يقول المثل نفسه:
“إن اللسيع لحاذر متوجس يخشى ويرهب كل حبل أبلق”، ولدى الإنجليز قول مشابه: “الطفل المكتوي بالنار هو الذي يخافها”.

المثل المشهور والشائع عند العرب: “لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين”، وأما الأوروبيون فيصوغونه بقولهم: “لا يقع الثعلب في الشرك نفسه مرتين”، وهذا المثل وما جاء على معناه يدل على إفادة المرء من تجاربه السابقة؛ بحيث يحذر الوقوع فيها مرة أخرى، هذا للإنسان الواعي الحصيف، أما سواه فلا تنفعه تجارب أو أقوال.

من التجارب التي تشترك بها الشعوب تجارب الأصدقاء والرفقاء، وموقفهم عند الشدة والرخاء، فالمثل العربي الشائع “عند الشدائد تعرف الإخوان”، و”الصديق عند الضيق”، وفيه يقول الشاعر العربي:
“خير إخوانك المشارك في الضر وأين الشريك في الضرِّ أينا؟
الذي إن شهدت سرك في الحي وإن غبت كان أذناً وعينا
مثل در الياقوت إن مسه النار حلاه البلاء فازداد زينا”، وقريب من ذلك عند الأوروبيين، إذ يقولون في مثل هذا المعنى: “الرفيق الأمين عند الحاجة”.

يتصل بأمر الصداقة وتجاربها ما يجمع الأصدقاء من سمات مشتركة تقرب بعضهم إلى بعض، وأخلاق تصل بينهم، وتؤثر فيهم، ولهذا المعنى صور كثيرة عند العرب: “وكل قرين بالمقارن يقتدي”، وأفصح من كل ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم -: “مثل الجليس الصالح، والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير.. إلى آخر الحديث”، وكذلك قول الشاعر: “إذا لم تدر ما الإنسان فانظر من الحزن المفاوض والمشير”، بمعنى: انظر إلى من هو محل الثقة من هذا الإنسان، وقول الآخر:
“لا تسألن عن امرئ واسأل به إن كنت تجهل أمره ما الصاحبا”، وقول عدي بن زيد الجاهلي:
“عن المرء لا تسل، وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي”، وهو نفس كلام العرب اليوم: “قل لي من تعاشر، أقل لك من أنت”، وللإنجليز مثل مقارب لذلك “المرء يعرف بأقرانه”.

لعل من أقدم تجارب الإنسان المشتركة ما يعانيه بعض الناس من نكران لجميل صنعوه، ونسيان مجتمعهم لعطاء قدموه، والجحود لما كان منهم من خير وإخلاص أنكروه، ولا عجب في ذلك، فبعض الناس لا يقر بنعم الله عليه، بل يجحد فضله السابغ حوله، وليس هناك شاهد أعظم من قوله تعالى: “إن الإنسان لربه لكنود، وإنه على ذلك لشهيد”.
يرى المرء في هذه الحياة ندرة الوفاء، وقلة العرفان بالمعروف، ويحتاج إلى ألف مثل يُعبر عن مختلف أنواعها، بل إن بعض الشعراء اعتبر الوفاء كالأشياء التي هي من صنع الخيال؛ لكثرة ما يحدث من غدر ونكران، والأمثال لدى مختلف الدول ثمرة تجاربها، وفي دولنا العربية رفد خصب من الأمثال تختلف من مكان إلى آخر، فهناك أمثال شعبية، وأمثال عربية تتباين من موقع إلى موقع آخر، وذلك معروف لنا جميعًا، وفيه كتب ومؤلفات متعددة.

يتشابه في ذلك الغدر والخيانة، فهما صفتان أرذل من الجحود والنكران، وعند العرب مقولة “جزاؤه جزاء سنمار“، والتي تقال حين يفعل المرء خيرًا ويُردّ عليه شرًا، ومردها تلك القصة الشهيرة، لما بنى سنمار قصرًا للملك الفارسي، توافرت فيه كل معالم الجمال والسلامة والبيئة النظيفة، وحين فرغ سنمار من بناء هذا القصر وإعداده، قال سنمار: “لو علمت أنكم توفوني أجره لبنيته بناء يدور مع الشمس حيث دارت”، فقال له الملك: ما دمت قادرًا على أن تنشئ أحسن من هذا فلماذا لم تبنه؟ ثم أمر به فرُمي من أعلى القصر؛ فخر سنمار صريعًا، فجرى المثل من ذلك، والعرب تقول في هذا المعنى: “ومن يصنع المعروف في غير أهله يلاقي كما لاقى مجير أم عامر“، وأم عامر هذه هي ضبعة طاردها قوم فلجأت إلى خباء أعرابي، فأجارها وجعل يطعمها ويسقيها، وذات مرة كان نائمًا فأقدمت عليه الضبعة وبقرت بطنه، فمات فلحق بها ابن عمه فقتلها، فقال هذا البيت الذي انتشر، وصار مثلًا يُضرب في نكران المعروف.


شارك المقالة: