الأنا والآخر في شعر أبو نواس

اقرأ في هذا المقال


يعتبر الأدب هو الباب الواسع الذي يحمل في ثناياه الكثير من الأشكال التي تُمكن الأديب من الإنتاج وتوضيح الكثير من المعتقدات والعواطف بأرقى الطرق الكتابية، ويُعد الشعر من أهم هذه الأشكال حيث طغت ظاهرة الأنا والآخر في الشعر المشرقي وتوظيفها في المقطوعات ليخدم دلالات معينة، وأبو نواس من أهم الأدباء الذين لجأوا إلى استخدام الأنا والآخر في إنتاجهم وفي هذا المقال سنوضح تجليات هذه الظاهرة في شعره.

مفهوم الأنا والآخر لغة واصطلاحا

الأنا: هي نعت للشَخصِ ذكر أو أنثى موضحًا لذاته وعاكسة لشخصيته، الأنا لغة: لقد ذُكرت في لسان العرب: ” اسم مُكنَّى، وهو المتكلم وحده، وإنما يُبنى على الفتح فرق بينه وبين أنْ، التي هي حرف ناصب للفعل، والألف الأخيرة إنما هي لبيان الحركة في الوقوف.”

اصطلاحًا: اختلف العلماء في مصطلح الأنا ففي الفلسفة تُعد الأنا بالمفهوم التقريبي له “النفس” وعن ذلك يقول الفيلسوف ديكارت: ” أنا أفكر إذن أنا موجود.”

أكد العلماء على الطرف الشُعوري من الفرد وهو الوسيلة لاستيعاب أسلوب البشر، أما في اللغة هو من الضمائر لتوضيح الذات، أي أنه ضمير خاص متعلق بالذات لا يستطيع أحد المشاركة فيه فهو مستقل عن الغير.

الآخر لغة: جاء لفظ الآخر في المعجم بمعنى غير، مثل قولنا طفلٌ آخر وكتاب آخر، وهذا يدل على الغيرية المخالفة والمعارضة.

اصطلاحًا: هو عكس الذات وأي شيء موجود خارج النفس ومستقل عنها، وعنه يتحدث الساوري: ” الآخر هو الذي يخالف الذات والعقيدة والثقافة ويظهر الآخر كالمُستَعمر للأنا والعلاقة معه محكومة بالتصادُم والمواجهة.”

الأنا المعتزة عند أبي نواس

عرف أبي نواس بشاعريته وحسه المرهف والمتعمق في شخصيته يدرك أنها ترتكز على العرض والظهور وتولَّعه بإغاظة الآخرين الاستخفاف بهم وظهر هذا جليًا في رده على الأجهري حين سخر منه فرد أبو نواس:

بِما أَهجوكَ لا أَدري

لِساني فيكَ لا يَجري

إِذا فَكَّرتُ في عِرضِ

كَ أَشفَقتُ عَلى شِعري

وأبو نواس يفضل المجاهرة والاستمتاع بالملذات ولا يمتنع عن شيء فيه لذة لذاته وهذا واضحًا في قصيدته:

دَع عَنكَ لَومي فَإِنَّ اللَومَ إِغراءُ

وَداوِني بِالَّتي كانَت هِيَ الداءُ

صَفراءُ لا تَنزَلُ الأَحزانُ ساحَتَها

لَو مَسَّها حَجَرٌ مَسَّتهُ سَرّاءُ

وفي الأبيات السابقة يتجلى للمستمع مدى غروره وجرأته وإعجابه بذاته، حيث أفصح عن شربه للخمر وإدمانها ويعتبر نفسه بدونها مريض وهي العلاج الشافي له، ولقد ظهرت هذه البيئة والصفة واضحة لديه في مقطوعاته التي يتكلم فيها عن الخمر وشربه لها فينشد:

ألا فاسقِني خمراً، وقل لي: هيَ الخمرُ،

ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهرُ

فما العيْشُ إلاّ سكرَة ٌ بعد سكرة ٍ،

فإن طال هذا عندَهُ قَصُرَ الدهرُ

في الأبيات السابقة يوضح لنا أبو نواس تعلقه بالخمر مع فعل مشين وأنه سيلقى بسببه اللوم والرفض وضل مُصر ويجهر به لا مبالي، فالخمر لديه يحتل مركزًا مرموقًا بهذا نراه يذكره في مقطوعاته التي أجاد وأبدع فيها.

قد تجلت الأنا عند أبي نواس في العديد من مقطوعاته التي قرر أن يبرز شخصيته بها ويؤكد للناس على وجوده، ويستنكر عليهم ما يخفونه وأنه غير مهتم بما يعلنونه أيضًا، ومن الأنا في مقطوعاته التي يتكلم فيها عن العشق ويقول:

الحَمدُ لِلَّهِ أَنّي

عَلى حَداثَةِ سِنّي

فقت المحبين طرا

ببعض ما شاع عني 

وهنا ينشد عن الابتعاد عن اللذات:

قُل لِمَن يَبغي صَلاحي

بِعتُ رُشدي بِطَلاحي

ظَفِرَت كَفَّ أَريبٍ

باعَ بِرّاً بِجُناحِ

في نظر الشاعر يرى أن الإعلان والمجاهرة في الاستمتاع بالملذات ليس أمرًا معيبًا أو منقصًا من ذاته بل على عكس من ذلك، وعُرف أبي نواس بأنه مغرورًا متكبرًا ويستقبل كبار الشخصيات بهذه الصفة دون خوف وعلى ذلك قوله:

وَمُستَعبِدٍ إِخوانَهُ بِثَرائِه

لَبِستُ لَهُ كِبراً أَبَرَّ عَلى الكِبرِ

إِذا ضَمَّني يَوماً وَإِيّاهُ مَحفِلٌ

رَأى جانِبي وَعراً يَزيدُ عَلى الوَعرِ

والأبيات السابقة يظهر عشق الذات والظهور وأنه مغتر بنفسه ويسرف بذلك ويعشق هذه الصفة بذاته وهذا ما يُطلق عليه بالنرجسية، وهذا يدل على أن أبو نواس شخصًا مغترًا بذاته يحاول إبرازها والافتخار بها والتقليل من شأن الناس حوله وترفيع نفسه وهو القائل:

ما لي وللناس كم يلحونني سفهاً

ديني لنفسي ودين الناس للنـــاس

الأنا المحبة عند أبي نواس

رغم سيطرة الأنا المعتزة بالذات عند أبي نواس إلا أنه تسرب لديه أحساس اتجاه الآخر داخل الأنا وتنامت يومًا بعد يوم حتى شكلت الكثير من المشاعر التي تأسر الأنا وتجذبه نحو الآخر ومن قصائد أبي نواس التي أظهرت الأنا المحبة تجاه الآخر قوله:

حامِلُ الهَوى تَعِبُ

يَستَخِفُّهُ الطَرَبُ

إِن بَكى يُحَقُّ لَهُ

لَيسَ ما بِهِ لَعِبُ

فالأَنا المُتيمَة بالهوى والعشق قد سيطر عليها الهم والحزن حتى تمكنت من جسمها وأصابته بالمرض والهزل وكل ذلك بسبب الآخر الذي عشقه، في أبيات أخرى يظهر الأنا المتعلقة بالآخَر الذي كان السبب في مرضه وهزله ويتغاضى عن ذلك وكأنه لم يفعل بحال الأنا كل هذا ويسأله عن سبب مرضه مع علمه ويقينه بالسبب وفي ذلك يقول:

أَضرَمتَ نارَ الحُبِّ في قَلبي

ثُمَّ تَبَرَّأتَ مِنَ الذَنبِ

حَتّى إِذا لَجَّجتُ بَحرَ الهَوى

وَطَمَّتِ الأَمواجِ في قَلبي

كما يُظهر لنا أبو نواس مدى الألم واليأس الذي يعتريه من لقاء محبوبته جنان ويحاول جاهدًا أن يسلى ويُلهى قلبه عنها ويوجه اللوم والعتاب إلى أناه المتيمة وبذلك يقول:

دَع جِناناً وَحُبَّها

عَنكَ إِن كُنتَ عاقِلا

لا تُذَكِّر بِنَفسِكَ ال

مَوتَ ما دامَ غافِلا

في أبيات أبو نواس السابقة يتحدث مع ذاته للتخلص من هذا الهوى لأن ذلك سيودي إلى هلاكه.

الأنا المتألمة عند أبي نواس

إن شعور الألم واليأس من أهم المشاعر التي تسيطر على الأنا مع محاولته تركها ويكون الإعلان والإفصاح هو الطريقة لنزع هذه الأحاسيس داخل الأنا، وظهر التألم عند أبو نواس بصورة واضحة في زهدياته، وعن ألم الحب ولوعة الفراق ينشد:

يا نَفسُ كَيفَ لَطُفتِ

لِلصَبرِ حَتّى صَبَرتِ

أَلَستِ صاحِبَتي يَو

مَ وَدَّعوني أَلَستِ

يا نَفسُ لَيتَكِ مِنّي

الآخر عند أبي نواس

1- العرب: إن الآخر الذي انشغل به أبو نواس هم العرب حيث سخر منهم بأسلوب حياتهم كما استهزأ من وقوف الدمن وامتطاء الناقة وعيشهم في الصحراء وغيره من المظاهر البدائية التي ثار عليها في العديد من مقطوعاته، وعَاب أبو نواس على العرب عيشِهم بالفقر في تلك الصحراء ويقارنها بحياة الحضَّر والعيشة الرغدة ومجالس الخمر، فراح يهجوهم بلسان سليط ومفردات جارحة ومثال على ذلك:

 دَعِ الأَطلالَ تَسفيها الجَنوبُ

وَتُبلي عَهدَ جِدَّتِها الخُطوبُ

وَخَلِّ لِراكِبِ الوَجناءِ أَرضاً

تَخُبُّ بِها النَجيبَةُ وَالنَجيبُ

2- الحبيبة: كشفت أبياته الغزلية عن هوى مصطنع حيث كان عاشقًا ومتيمًا بالمتَّعة واللهو فلا وجود للأحاسيس الصادقة في مقطوعاته رغم جودتها وإتقانها وتغزله بالجواري والتعلق بهن، وكان كثير الميل إلى محبوبته جنان فكان هي الآخر التي يخاطبها في كثير من مقطوعات الغزل ويقول:

إِنّي صَرَفتُ الهَوى إِلى قَمَرٍ

لا يَتَحَدّى العُيونَ بِالنَظَرِ

إِذا تَأَمَّلتَهُ تَعاظَمَكَ ال

إِقرارُ في أَنَّهُ مِنَ البَشَرِ

3- الخمر: اعتبر أبو نواس الخمر هي الآخر الذي تمادى في وصفه، وكانت مجالسها لها رهبة وخشوع في نفسه، فقد كان عشقه للخمر لا يوصف بحيث امتزج في روحه لا يستطيع مفارقته أو هجره ويقول في ذلك:

أَحيِ لي يا صاحِ روحي

بِغَبوقٍ وَصَبوحِ

وَاِسقِني حَتّى تَراني

رادِعاً رَدعَ الجَموحِ

قَهوَةً صَهباءَ بِكراً

وفي النهاية نستنتج إن أبي نواس من الأدباء الذين استخدموا الأنا والآخر في مقطوعاته، وكان معروفًا بكبريائه وغروره فظهرت عنده الأنا المعتزة وكذلك العاشقة والمتألمة، أما الآخر فتجلت في مقطوعاته من خلال الهجاء الذي ووجهه لطبائع العرب، وكذلك كان الآخر المتعلق بهم أبو نواس هم المحبوبة والخمر. 


شارك المقالة: