الأنا والآخر في شعر المتنبي

اقرأ في هذا المقال


الأنا والآخر هي سمة بديهية طاغية في أدب المتنبي صاحب الكبرياء والتعالي على الآخرين، وقد عبرت مقطوعاته عن هذه الصفات، وأظهر أسلوبه المحتد وعلاقته مع من حوله من الناس وفي هذا المقال سنتناول هذه الظاهرة في مقطوعات المتنبي وفهم دلالاتها المضمرة.

حضور الأنا وغياب الآخر في شعر المتنبي

موضوع الأنا والآخر له مكانة واسعة في مقطوعات المتنبي ويتضح للمستمع هذه الثنائية بارزة في إنتاجه كما يتنبه المستمع إلى التفاوت والتضاد بينهما، الأنا لامعة في النقيض للآخر وتُنشىء صراع وتجلت الأنا طاغية بشكل تنفي وجود الآخر وتلغيه ومثال عليه قول المتنبي في طفولته:

أَيَّ مَحَلٍّ أَرتَقي

أَيَّ عَظيمٍ أَتَّقي

وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ الـ

لاهُ وَما لَم يَخلُقِ

مُحتَقَرٌ في هِمَّتي

كَشَعرَةٍ في مَفرِقي

في حديثه السابق تظهر الأنا واضحة ومستفزة وفيها تمادي وغرور يقابله تحقير من قدر الآخر، ولازمت الأنا بدايات المتنبي وأصبحت المركز والأساس في أبياته واختفاء والتقليل من شأن الآخر ومثال على ذلك:

قُضاعَةُ تَعلَمُ أَنّي الفَتى الـ

ـلَذي اِدَّخَرَت لِصُروفِ الزَمانِ

وَمَجدي يَدُلُّ بَني خِندِفٍ

عَلى أَنَّ كُلَّ كَريمٍ يَمانِ

أَنا اِبنُ اللِقاءِ أَنا اِبنُ السَخاءِ

أَنا اِبنُ الضِرابِ أَنا اِبنُ الطِعانِ

أبياته الماضية تعبر عن سيطرة الأنا وحضورها القوي من خلال استخدام التكرار لمفردة الأنا، بالإضافة إلى حضور ضمائر أخرى تنوب عنها مثل ياء المتحدث، كما تبرز الأنا وتفرض سيطرتها بأبياته التالية:

جَفَتني كَأَنّي لَستُ أَنطَقَ قَومِها

وَأَطعَنَهُم وَالشُهبُ في صورَةِ الدُهمِ

يُحاذِرُني حَتفي كَأَنِّيَ حَتفُهُ

وَتَنكُزُني الأَفعى فَيَقتُلُها سُمّي

طِوالُ الرُدَينِيّاتِ يَقصِفُها دَمي

وَبيضُ السُرَيجِيّاتِ يَقطَعُها لَحمي

بَرَتني السُرى بَريَ المُدى فَرَدَدنَن

أَخَفُّ عَلى المَركوبِ مِن نَفَسي جِرمي

تبرز هذه الأبيات التضاد والصراع بين الأنا والآخر والمتمثلة بالمحبوبة التي تحاول الصدّ والجفاء، وذهب العلماء إلى أن المتنبي قد قصد بالمحبوبة القوم الذي قلل من شأنهم وأعلى من ذاته.

الشعر كميدان للمنازلة عند المتنبي

إن الرابطة بين الأنا والآخر وما ينشأ عنها من تنافس وصدام تجعل الأنا تلتفت إلى الذات ومحاولة إظهار مراكز قوتها التي تحقق لها التفرد والاختلاف ومنه أبيات المتنبي:

أَنا اِبنُ مَن بَعضُهُ يَفوقُ أَبا ال

باحِثِ وَالنَجلُ بَعضُ مَن نَجَلَه

وَإِنَّما يَذكُرُ الجُدودَ لَهُم

مَن نَفَروهُ وَأَنفَدوا حِيَلَه

فَخراً لِعَضبٍ أَروحُ مُشتَمِلَه

وَسَمهَرِيٍّ أَروحُ مُعتَقَلَه

استهل الشاعر حديثه بلفظة أنا وغرضه من ذلك تأكيد مركزية وسيطرة الأنا، كما وجد المتنبي في الكلام المنظوم طريقة فعالة وله حضور بارز في هذه الحياة، فنراه يذهب إلى تكرار الأنا في مقطوعاته التي ضمن لها الديمومة والخلود، وهو الأداة الفاعلة التي تضمن لصاحبها المقاومة والبقاء، ومثال عليه قوله:

أَرى المُتَشاعِرينَ غَروا بِذَمّي

وَمَن ذا يَحمَدُ الداءَ العُضالا

وَمَن يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ

يَجِد مُرّاً بِهِ الماءَ الزُلالا

وَقالوا هَل يُبَلِّغُكَ الثُرَيّا

فَقُلتُ نَعَم إِذا شِئتُ اِستِفالا

ونرى المتنبي يكرر نفس الفكرة الواردة في الأبيات السابقة والتي قالها في مقر بدر بن عمار، ويعيده ثانية في قصر سيف الدولة الحمداني وينشد:

أَفي كُلِّ يَومٍ تَحتَ ضِبني شُوَيعِرٌ

ضَعيفٌ يُقاويني قَصيرٌ يُطاوِلُ

لِساني بِنُطقي صامِتٌ عَنهُ عادِلٌ

وَقَلبي بِصَمتي ضاحِكٌ مِنهُ هازِلُ

وَأَتعَبُ مَن ناداكَ مَن لا تُجيبُهُ

وَأَغيَظُ مَن عاداكَ مَن لا تُشاكِلُ

برزت الأنا والغرور من خلال الأدب والتنافس بين الشعراء في إثبات مكانة الحديث وأصالته ونفي كل ما يُثار حوله من إنقاص وتشكيك وعن ذلك يقول المتنبي:

أنَا السّابِقُ الهادي إلى ما أقُولُهُ

إذِ القَوْلُ قَبْلَ القائِلِينَ مَقُولُ

وَما لكَلامِ النّاسِ فيمَا يُريبُني

أُصُولٌ ولا للقائِليهِ أُصُولُ

أُعَادَى على ما يُوجبُ الحُبَّ للفَتى

كما نرى نزعة الأنا بارزة لدى المتنبي في مقطوعات المدح والتي خالف فيها المتعارف عليه إذ أن رواد الكلام المنظوم يحرصون على كسب رضا الممدوح ونيل الجوائز مقابل ذلك، ولكن الأنا طغت في أبيات المتنبي وصور الممدوح وهو قلق وخائف من رحيله وابتعاده عنه فيقدم لها أثمن الخيول والهبات ليُثنيه عن الرحيل ومثال على ذلك قوله مادحًا الحسين الهمذاني:

حَباني بِأَثمانِ السَوابِقِ دونَها

مَخافَةَ سَيري إِنَّها لِلنَوى جُندُ

وَشَهوَةَ عَودٍ إِنَّ جودَ يَمينِهِ

ثَناءٌ ثَناءٌ وَالجَوادُ بِها فَردُ

فَلا زِلتُ أَلقى الحاسِدينَ بِمِثلِها

تجليات الأنا في شعر الفخر للمتنبي

كان المتنبي شديد التفاخر بذاته وبمقطوعاتِه وخصوصًا عندما يرى الجميع يرددون مقطوعاته ويكررُونها، وحين ينشدونها أمام الخلفاء فإنهم يجزلون العطاء للمتنبي ويقول عن ذلك:

أَجِزني إِذا أُنشِدتَ شِعراً فَإِنَّما

بِشِعري أَتاكَ المادِحونَ مُرَدَّدا

وَدَع كُلَّ صَوتٍ غَيرَ صَوتي فَإِنَّني

أَنا الصائِحُ المَحكِيُّ وَالآخَرُ الصَدى

تَرَكتُ السُرى خَلفي لِمَن قَلَّ مالُهُ

وَأَنعَلتُ أَفراسي بِنُعماكَ عَسجَدا

تنبأ المتنبي لأهمية مقطوعاته وشهرتها وانشغال رواد الأدب بِشرحها وتحليلها وكأنه يراهم حين أنشد:

أنا الذي نظَر الأعمى إلى أدبي

وأسْمعَت كلماتي مَن بهِ صَمَمُ

أنامُ مِلْءَ جُفُوني عن شوارِدِها

ويَسْهَرُ الخلقُ جرَّاها وَيَختَصِمُ

وجاهلٍ مدَّه في جهلِهِ ضَحِكي

حَتّى أتَتْه يدٌ فرَّاسةٌ وفَمُ

إذا رأيتَ نيوبَ الليث بارزةً

فَلا تَظُنَّنَّ أنَّ اللَيثَ يبتَسِمُ

وَمُهجةٍ مُهجتي مِن هَمّ صاحبها

أدركْتُها بجَوادٍ ظهرهُ حَرَمُ

لم ينسى المتنبي أن يتفاخر بشاعته في المعارك التي خاضها وعن ذلك يردد:

أَبا عَبدِ الإِلَهِ مُعاذُ إِنّي

خَفِيٌّ عَنكَ في الهَيجا مَقامي

ذَكَرتُ جَسيمَ ما طَلَبي وَأَنّا

نُخاطِرُ فيهِ بِالمُهَجِ الجِسامِ

أَمِثلي تَأخُذُ النَكَباتُ مِنهُ

وَيَجزَعُ مِن مُلاقاةِ الحِمامِ

نماذج شعرية على الآخر في شعر المتنبي

1- تغنى المتنبي بشجاعة سيف الدولة الحمداني الذي ظلَّ مرافقًا له مادحًا ومُثنيًا عليه فأنشد به:

وَمَن تَكُنِ الأُسدُ الضَواري جُدودَهُ

يَكُن لَيلُهُ صُبحاً وَمَطعَمُهُ غَصبا

وَلَستُ أُبالي بَعدَ إِدراكِيَ العُلا

أَكانَ تُراثاً ما تَناوَلتُ أَم كَسبا

فَرُبَّ غُلامٍ عَلَّمَ المَجدَ نَفسَهُ

كَتَعليمِ سَيفِ الدَولَةِ الطَعنَ وَالضَربا

إِذا الدَولَةُ اِستَكفَت بِهِ في مُلِمَّةٍ

كَفاها فَكانَ السَيفَ وَالكَفَّ وَالقَلبا

2- مدح كافور وكان للمُتنبي غرض وقَصد من ذلك فهو لم يثني عليه إعجابًا بشخصه بل من أجل غاية في ذاته وعنه ينشد:

وَغَيرُ كَثيرٍ أَن يَزورَكَ راجِلٌ

فَيَرجِعَ مَلكاً لِلعِراقَينِ والِيا

فَقَد تَهَبَ الجَيشَ الَّذي جاءَ غازِياً

لِسائِلِكَ الفَردِ الَّذي جاءَ عافِيا

وفي النهاية نستنتج إن الأَنا قد طغت على مقطوعات المتنبي وهو شديد الغرور بذاته وأدبه، وتجلى الآخر في قصائده التي أنشدها مادحًا للحمداني أو كافور وغيرهم، ولقد ظهرت الأنا واضحة في مقطوعاته وفيها تمادي مستفز يقابله تحقير من شأن الآخر.


شارك المقالة: