على الرغم من أنّ مارتن بوبر يحتل المرتبة الأولى بين المفكرين اليهود في القرن العشرين إلّا أنّ علاقته بالفلسفة كانت محل خلاف، وكانت اهتماماته الفلسفية متداخلة بإحكام مع الاهتمامات في الفن والأساطير والتصوف وعلم الاجتماع وعلم الكتاب المقدس والحسيدية والصهيونية واليهودية، وقد طور فلسفة تعليمية تقوم على مخاطبة الشخص بأكمله من خلال تعليم الشخصية، وأدار إنشاء مراكز تعليم يهودية في ألمانيا ومراكز تدريب المعلمين في إسرائيل.
عالم أنثروبولوجيا فلسفي:
الأعمال الفلسفية الرئيسية لمارتن بوبر باللغة الإنجليزية هي (أنا وأنت) عام 1923 التي تمت قراءتها على نطاق واسع، وهي مجموعة من المقالات من عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي نُشرت تحت عنوان بين الإنسان والإنسان، وهي مجموعة مقالات من الخمسينيات نُشرت تحت عنوان معرفة الإنسان: مقالات مختارة والخير والشر: تفسيران عام 1952، بالنسبة للعديد من المفكرين فإنّ بوبر هو فيلسوف أنا وأنت، وقد اقترح هو نفسه في كثير من الأحيان أن يبدأ المرء بهذا النص، ومع ذلك فإنّ مقالاته اللاحقة توضح أنثروبولوجيا فلسفية معقدة وجديرة بالاهتمام.
أطلق بوبر على نفسه (عالم أنثروبولوجيا فلسفي) في محاضراته الافتتاحية عام 1938 كأستاذ للفلسفة الاجتماعية في الجامعة العبرية في القدس بعنوان (ما هو الإنسان؟) -في بين الإنسان والإنسان- ويذكر أنّه يرد صراحة على سؤال الفيلسوف إيمانويل كانط: ما هو الإنسان؟، ويقر في كتاباته عن سيرته الذاتية بأنّه لم يتخلص تمامًا من تأثير كانط، ولكن بينما يجد بوبر بعض أوجه التشابه بين فكره وفكر كانط لا سيما في الأخلاق، فإنّه يشرح في عناصر ما بين البشر (في معرفة الإنسان ، 1957) أنّ أصلهم وأهدافهم يختلفان.
دائمًا ما يكون أصل بوبر هو التجربة المُعاشة ممّا يعني شيئًا شخصيًا وعاطفيًا وجسديًا وفريدًا ومتضمنًا في عالم وفي التاريخ وفي الحياة الاجتماعية، فالهدف هو دراسة كمال الإنسان خاصة ما تم التغاضي عنه أو بقائه مخفيًا، وبصفته عالمًا أنثروبولوجيًا يريد أن يراقب ويتحقق من حياة الإنسان وخبرته كما تعيش بدءًا من التجربة الخاصة للفرد، فكعالم أنثروبولوجيا فلسفي يريد أن يصنع هذه التجارب الخاصة التي تستعصي على عالمية اللغة المفهومة.
أي نظرة عامة شاملة لفلسفة بوبر يُعيقها ازدرائه للتنظيم، وصرح بوبر أنّ الأيديولوجية كانت أسوأ شيء يمكن أن يحدث لفلسفته ولم يجادل أبدًا في موضوعية مفاهيمه، مع العلم فقط بحقيقة تجربته الخاصة ناشد الآخرين الذين لديهم تجارب مماثلة.
يبدأ بوبر هذه المحاضرات بالتأكيد على أنّ الإنسان يصبح مشكلة لنفسه فقط ويسأل (ما هو الإنسان؟) في فترات التشرد الاجتماعي والكوني، ومستهدفًا كانط وهيجل قال إنّه بينما يبدأ هذا الاستجواب في العزلة لكي يجد الإنسان من هو يجب أن يتغلب على العزلة والطريقة الكاملة لتصور المعرفة والواقع القائم على العزلة.
يتهم بوبر هيجل بتشويه سمعة الشخص والمجتمع البشري الملموس لصالح العقل العالمي ويجادل بأنّ الإنسان لن يكون في المنزل أبدًا أو يتغلب على عزلته في الكون التي يفترضها هيجل، وبتركيزه على التاريخ يحدد هيجل الكمال في الزمان وليس في المكان، ويجادل بوبر بأنّ هذا النوع من الكمال الموجه نحو المستقبل يمكن التفكير فيه ولكن لا يمكن تخيله أو الشعور به أو العيش فيه، فعلاقتنا بهذا النوع من الكمال يمكن أن تستند فقط إلى الإيمان بضامن للمستقبل.
بدلاً من ذلك يحدد بوبر الإدراك في العلاقات بين المخلوقات، فالتغلب على وحدتنا التي تميل إلى التأرجح بين تصور الذات على أنّها ممتصة في الكل (الجماعية) والجميع كما هو مستغرق في الذات (التصوف الانتمائي)، وندرك أننا دائمًا موجودون في وجود ذوات أخرى، وأنّ الذات جزء من الواقع فقط بقدر ما هي علائقية، وعلى عكس الإجابات الفلسفية التقليدية على سؤال (ما هو الإنسان؟) التي تركز على العقل أو الوعي الذاتي أو الإرادة الحرة يجادل بوبر بأنّ الإنسان هو الكائن الذي يواجه (الآخر)، وأنّ المنزل البشري مبني من علاقات التأكيد المتبادل.
فلسفة التعليم:
بالإضافة إلى عمله كمعلم قدم مارتن بوبر ونشر العديد من المقالات حول فلسفة التعليم بما في ذلك التعليم الذي قدم في عام 1925 في هايدلبرغ (بين الإنسان والإنسان)، وفي مقابل النغمة التقدمية للمؤتمر جادل بوبر بأنّ عكس الإكراه والانضباط هو الشركة وليس الحرية، فالطالب ليس نشيطًا تمامًا بحيث يمكن للمعلم فقط تحرير قواه الإبداعية، ولا يكون الطالب سلبيًا تمامًا بحيث يقوم المربي فقط بصب المحتوى، وبدلاً من ذلك في مواجهتهم تلتقي القوى التربوية للمدرس بالفطرة المنطلقة للطالب، وتعتمد إمكانية مثل هذه الشركة على الثقة المتبادلة.
يثق الطالب في المعلم بينما يثق المعلم في أنّ الطالب سيغتنم الفرصة لتطوير نفسه بشكل كامل، وعندما يستيقظ المعلم ويؤكد قدرة الطالب على تطوير نفسه والتواصل معه يتعلم المعلم أنّ يتعرف بشكل أفضل على الخاص والفريد في كل طالب، وعلى عكس الداعي فإنّ المربي الحقيقي يؤثر لكنه لا يتدخل، وهذه ليست رغبة في تغيير الآخر بل ترك ما هو صواب بذرة وتنمو بالشكل المناسب، ومن ثم فإنّ بينهما علاقة حوارية ولكن ليست علاقة تبادلية متساوية، وإذا كان المعلم يقوم بالمهمة فلا يمكن أن تكون علاقة بين متساوين.
يوضح بوبر أنّه لا يمكن للمرء إعداد الطلاب لكل موقف ولكن يمكن للمرء أن يوجههم إلى فهم عام لموقفهم ومن ثم إعدادهم لمواجهة كل موقف بشجاعة ونضج، وهذا هو تعليم الشخصية أو تعليم الشخص بالكامل، فيتعلم المرء من أجل الشجاعة من خلال تغذية الثقة من خلال مصداقية المربي، ومن هنا فإنّ حضور المربي وشخصيته أهم من محتوى ما يتم تدريسه بالفعل.
يكون المعلم المثالي صادقًا مع جوهره ويستجيب بكلمة (أنت) الخاصة به ممّا يغرس الثقة ويمكّن الطلاب من الاستجابة بـ (أنت)، فيقر بوبر أنّ المعلمين يواجهون توترًا بين التصرف بشكل عفوي والتصرف بنية، ولا يمكنهم التخطيط للحوار أو الثقة ولكن يمكنهم السعي لترك أنفسهم مفتوحين أمامهم.
في (التعليم والمنظر العالمي) أوضح بوبر أنّه من أجل الاستعداد لحياة مشتركة، ويجب على المعلمين أن يتعلموا بطريقة تجعل كل من الفردية والمجتمع متقدمين، وهذا يستلزم وضع مجموعات ذات وجهات نظر مختلفة للعالم قبل بعضها البعض والتعليم، وليس من أجل التسامح ولكن من أجل التضامن، ويعني تعليم التضامن تعلم العيش من وجهة نظر الآخر دون التخلي عن وجهة نظر المرء، فيجادل بوبر بأنّ الكيفية التي يؤمن بها المرء أكثر أهمية ممّا يعتقده المرء، ويجب على المدرسين تطوير طلابهم ليسألوا أنفسهم عن موقف رؤيتهم للعالم وماذا يفعلون بها.