الإدمان السلوكي للنقد كما وصفه القرآن:
كما أنَّ النقدَ يَبعثُ ألماً للمنقود، فإنَّ فيه لذة ومتعة للناقد، تصل هذه المتعة إلى إدمانٍ يستوعب غالب وقته وجهده؛ ففيها قدر من الاستعلاء والأستاذية، وفيها تهوين لما فاته من شرف العمل، وفيها مخاطبة لأهواء النفس التي تحمله هنا على إدمان النقد، وتحمله هناك على الغيبة أو السخرية، ولذلك جاء في الحديث عَنْ أبِي هُريرَة قَالَ: قَالَ رَسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يُبْصِرُ أحَدكمُ الْقَذَاة في عيْنِ أخيه، وينْسى الْجذع فِي عيْنه»
الغيبة هي كشف للعيوب، ولكن على سبيل الهوى والفساد، لا النصيحة والإصلاح، ومن أسرف في النقد شقَّ عليه العمل، ولا يستطيعُ العامل أن يُدمن على النقد؛ لأنّه مشغول بعمله، إنّما يدمنه البطّالون، وأصحاب الألسنة الحِداد، هم الأجبن وقت الحاجة للبأس والقتال، وهم الأبخل وقت الحاجة للإنفاق، قال الله عنهم: ﴿أَشِحَّةً عَلَیۡكُمۡۖ فَإِذَا جَاۤءَ ٱلۡخَوۡفُ رَأَیۡتَهُمۡ یَنظُرُونَ إِلَیۡكَ تَدُورُ أَعۡیُنُهُمۡ كَٱلَّذِی یُغۡشَىٰ عَلَیۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلۡخَوۡفُ سَلَقُوكُم بِأَلۡسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ٱلۡخَیۡرِۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَمۡ یُؤۡمِنُوا۟ فَأَحۡبَطَ ٱللَّهُ أَعۡمَـٰلَهُمۡۚ وَكَانَ ذَ ٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ یَسِیرࣰا﴾ صدق الله العظيم [الأحزاب ١٩].
الإدمان على النقدِ قد يقع فيه بعض الصالحين أيضاً، فبينما يعمل غيرهم في مشاريع الإفساد، يكتفي هؤلاء بالنقد، وهذا الإدمان يوهمهم أنّهم في مشروع نافع، فالتحذير والنقد ليس مشروعاً حقيقياً يُزاحم مشاريع الإفساد، أفضل نقد للفساد أن تُقيم مشاريعك المنافسة في الصلاح، ويبقى التحذير عملاً مُكمِّلاً لا يسوغ الاكتفاء به.
أحياناً نشاهد بعض القنوات العربية تبث مسلسلات مخالفة للشريعة، وفي كل عام كان عمل الصالحين والغيورين الانهماك في التحذير منها، ويقومون بنشر الفتاوى المُحرمة له، وبعد سنوات ظلت المسلسلات على حالها، دون أن ننجح في بناء مشاريعنا وخبراتنا المُزاحمة والمُدافعة لهذا الفساد.
لقد كان الواجب عدم الاكتفاء بالتحذير، بل الشروع في الإنفاق من المال، والوقت، والجهد، والخبرة، في بناء مشاريع، تنافس مثل هذه المسلسلات، والتي تعمل على مُخاطبة المجتمع، وتتضمن القيم والمعاني الجميلة التي يحتاجها الناس، فالنقد النافع بناءٌ وإيجابيةٌ وعمل، وليس تحذيراً فحسب، قال تعالى: ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُوا۟ فَسَیَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَـٰلِمِ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ فَیُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ صدق الله العظيم [التوبة ١٠٥] قال الرازي في تفسير هذه الآية: في قوله: ﴿فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾ سؤال: وهو أن عملهم لا يراه كل أحد، فما معنى هذا الكلام ؟ والجواب: معناه وصول خبر ذلك العمل إلى الكل. قال عليه السلام ”«لو أنّ رجلا عمل عملا في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنا ما كان» “