البكاء والدمع في شعر المتنبي

اقرأ في هذا المقال


يشعر الإنسان بحاجته للبُكاء نتيجة شعور نابع من داخله سواء أكان فرحًا أم حزنًا، حيث يحاول الشخص توضيح ما يختلج في مكنون نفسه بواسطة البكاء، وبرزت هذه الظاهرة عند الأدباء الذين اعتبروها طريقة مهمة من وسائل التوضيح وأبرز الشعراء الذين تحدثوا في أبياتهم عن البكاء، وكانت ظاهرة بارزة في مقطوعات المتنبي، وفي هذا المقال سنفسر هذه الظاهرة والعوامل التي دفعته إلى استعمالها في أبياته.

البكاء والدمع كظاهرة موضوعية في شعر المتنبي

يسيطر على المتنبي مشاعر وأحاسيس كغيره من الناس على الرغم من غروره وكبريائه، فإنه يُبرز الدمع في العديد من المواقف التي تحدث عنها في مقطوعاته، وعن المتنبي قال الدارسين: ” كان يتحاشى أن يبكي أمام الآخرين حياء، ويتَجلَدُ إن كان بمفرده لكبريائه الذي يخالطه شيء من الغرور، لكنه عندما ينهمر الدمع من عينيه ينتحب أكثر من كل من ينوح، كما اعترف هو صراحة في إحدى قصائده.” 

ومن خلال الاطلاع على ديوانه والتعمق فيه يتضح للدارس أنه يمتلك فيض من الأحاسيس وأكثر من استعمال البكاء ومفرداته ووظفها بطريقة رائعة ومعبرة عن ذاته، كما بدأ النَّوح عند المتنبي جليًا في مقطوعاته في زهرة شبابه ومن هذه المفردات ” بكى، دمع،” وفي هذا يردد:

شَيبُ رَأسي وَذِلَّتي وَنُحولي

وَدُموعي عَلى هَواكَ شُهودي

وقوله كذلك في ريعان الشباب:

قَبَّلتُها وَدُموعي مَزجُ أَدمُعِها

وَقَبَّلَتني عَلى خَوفٍ فَماً لِفَمِ

وعن ذكر البكاء ورد في أبياته أنه عندما اجتمع بدر بن عمار في صباه ومدحه وذكر البكاء في مقطوعته حيث أنشد:

وأصبح مصرٌ لا تكون أميرَهُ

ولو أنَّه ذو مُقلَةٍ وفمٍ بَكى

كما تحدث عن وضع العاشقين ونًوحِهم أمام المحبوبة حيث أنشد:

أتراها لكثرة العشاق

تحسبُ الدمع خِلقةٌ في المآقي

ونرى ظاهرة البكاء تسيطر على المتنبي عند تقدم العمر به في مقطوعته التي ذم فيها كافور حيث قال:

ماذا لقيت من الدنيا وأعجَبٌه

أنّي بما أنا باكٍ فيه محسُود

ومن صور النحيب التي ظهرت في أبياته عندما ذكر شقيقة سيف الدولة في آخر حياته:

حتى إذا لم يدع لي صدقهُ أملًا 

شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

يظهر لنا أن البكاء لم يقتصر على مرحلة عمرية في حياته إنما برز في جميع مراحل حياته، ولم يكن عفويًا أو لا شعوريًا إنما برز من وعي ومواقف قد مرَّ بها استدعت منه البكاء حاله كحال جميع البشر يمتلك أحاسيس جياشه وفؤاد مرهف.

البكاء في لوحة الطلل لدى المتنبي

إن المتمعن في أدب المتنبي يكشف عن شاعريته وبراعته الحضرية التي كشفت للتحديث في إنتاجه وكذلك تقليده للقدامى، فنظم المقطوعات التي بُدأت بذكر الدمن واستيقاف الرقاق عليها، وعنه قال مصيلحي: “المتنبي الفتى العربي اليد والوجه واللسان جعل المقدمات قصائده الطلل والنسيب.” 

دراسة مقطوعات المتنبي تظهر توظيف الدمع في أبياته التي مطلعها الوقوفِ على الديار وتكراره لهذا الموضوع، وقد أوعزَهُ العلماء إلى تقليده لمن سبقه، وحين أورده في قصائد المدح لم تتعارض مع الغرض المنشود إنما خدمته بشكل كبير ومثال عليه ذكره للعبرات في أبيات الثناء للمغيث العجلي: 

دَمعٌ جَرى فَقَضى في الرَبعِ ماوَجَبا

لِأَهلِهِ وَشَفى أَنّى وَلا كَرَبا

عُجنا فَأَذهَبَ ما أَبقى الفِراقُ لَنا

مِنَ العُقولِ وَما رَدَّ الَّذي ذَهَبا

سَقَيتُهُ عَبَراتٍ ظَنَّها مَطَراً

سَوائِلاً مِن جُفونٍ ظَنَّها سُحُبا

وفي الأبيات السابقة يوضح المتنبي سبب بكائه في هذه المقطوعة المدحية توضيحًا رائعًا حيث يخط لنا أروع الصور حين يصفها بالأمطار التي انسكب من عيونه وكأنها سحبٌ محملة بالدموع، وقد انهمرت هذه العَبرات بسبب بكائه على الأحباب الذين هجروا البلاد.

وعَمِد المتنبي إلى توظيف العبرات في الطللية ضمن مقطوعة مدح فيه الحمداني حيث ردد:

أَجابَ دَمعي وَما الداعي سِوى طَلَلِ

دَعا فَلَبّاهُ قَبلَ الرَكبِ وَالإِبِلِ

ظَلِلتُ بَينَ أُصَيحابي أُكَفكِفُهُ

وَظَلَّ يَسفَحُ بَينَ العُذرِ وَالعَذَلِ

أَشكو النَوى وَلَهُم مِن عَبرَتي عَجَبٌ

كَذاكَ كُنتُ وَما أَشكو سِوى الكَلَلِ

توضح أبياته السابقة مطلع لوحته الطللية التي يظهر أن العبرات سيطرت على هذه المقدمة ويوضح حاله عند المرور بديار الأحباب، وكيف تنهمر الدموع من جفونه رغم محاولته إخفائها لكن دون جدوى.

البكاء والعبرات في قصائد الرثاء لدى المتنبي

برز النّواح في مقطوعات الرثاء عند المتنبي بشكل كبير وأكثر من تكراره في مقطوعاته ويرجع سبب ذلك إلى الكثير من الدواعي، اعتمد المتنبي على العبَرَات بوصفه طريقة لتخفيف عن النفس وخصوصًا في رثاء الأهل والخلان ومن أصدق هذه ما انهمر من جفونه عند رثاء جدته حيث يقول:

بَكَيتُ عَلَيها خيفَةً في حَياتِها

وَذاقَ كِلانا ثُكلَ صاحِبِهِ قِدما

وَلَو قَتَلَ الهَجرُ المُحِبّينَ كُلَّهُم

مَضى بَلَدٌ باقٍ أَجَدَّت لَهُ صَرما

رقَا دمعها الجاري وجفت جُفونها

وفارق حُبي قلبها بعد ما أدمى

توفيت جدته التي كان متعلقًا بها كثيرًا وهو غائبٌ ولم يكن متواجد في تلك اللحظة فولد ذلك بنفسه الألم والبكاء ودفعته إلى بكائها بلغة معبرة صادقة، وكيف لا يكون ذلك وهي بمثابة أمًا له ويقول عنها:

ولو لم تكوني بنت أكرم والدٍ

لكان أباكِ الضخم كونك لي أمًا

كما بكى المتنبي لخولة شقيقة الحمداني في مقطوعاته وكان رثاؤها في أبياته نابع من القلب وصادقٌ في ذلك وعنه قال:

أُجِلُّ قَدرَكِ أَن تُسْمَيْ مُؤَبَّنَةً

وَمَن يَصِفكِ فَقَد سَمّاكِ لِلعَرَبِ

لا يَملِكُ الطَرِبُ المَحزونُ مَنطِقَهُ

وَدَمعَهُ وَهُما في قَبضَةِ الطَرَبِ

لقد اتعبت هذه المصيبة قلب الشاعر وأقلَقت مضجعه وطال ليله جراء موت محبوبته التي عشقها وهام في حبها، ويتحدث عن طول ليله قائلاً:

أَرى العِراقَ طَويلَ اللَيلِ مُذ نُعِيَت

فَكَيفَ لَيلُ فَتى الفِتيانِ في حَلَبِ

يَظُنُّ أَنَّ فُؤادي غَيرُ مُلتَهِبٍ

وَأَنَّ دَمعَ جُفوني غَيرُ مُنسَكِبِ

البكاء والدموع في لوحات المدح لدى المتنبي

عجت مقطوعات المديح عند المتنبي بالبُكاء والعَبَرَات ومنها ومنها تلك التي نُظمت في الملوك والقادة، ونراه في بعض الأحيان بنسبه إلى الآخرين، وأخرى يكون هو الباكي، ومثال على ذلك ثنائه على أبو أيوب بن عمران:

سِربٌ مَحاسِنُهُ حُرِمتُ ذَواتِها

داني الصِفاتِ بَعيدُ مَوصوفاتِها

أَوفى فَكُنتُ إِذا رَمَيتُ بِمُقلَتي

بَشَراً رَأَيتُ أَرَقَّ مِن عَبَراتِها

لا سِرتِ مِن إِبِلٍ لَوَ أَنّي فَوقَها

لَمَحَت حَرارَةُ مَدمَعَيَّ سِماتِها

نرى المتنبي قد نوع في التعبير عن بكائه باستعمال العَبَرَات والبكاء وجمع بينهما في مقطوعاته ومثال عليه ما قاله في مدح ابن الكاتب:

أَرَكائِبَ الأَحبابِ إِنَّ الأَدمُعا

تَطِسُ الخُدُودَ كَما تَطِسنَ اليَرمَعا

فَاِعرِفنَ مَن حَمَلَت عَلَيكُنَّ النَوى

وَاِمشينَ هَوناً في الأَزِمَّةِ خُضَّعا

قَد كانَ يَمنَعُني الحَياءُ مِنَ البُكا

فَاليَومَ يَمنَعُهُ البُكا أَن يَمنَعا

حَتّى كَأَنَّ لِكُلِّ عَظمٍ رَنَّةً

في جِلدِهِ وَلِكُلِّ عِرقٍ مَدمَعا

وفي النهاية نستنتج إن للمُتنبي أحاسيس سيطرت على مقطوعاته حيث برزت ظاهرة البكاء والعبرات من خلال الأغراض الأدبية التي تناولها، فنرى البكاء حاضرًا في مقطوعات المدح وكذلك الرثاء ولم تخلو منه المقدمات الطللية، ومن أصدق العَبَرَات التي ذرفها المتنبي في أبياته تلك التي انهمرت في رثاء جدته.


شارك المقالة: