منذ نشأ فن الترجمة نشأت معه تحديّات عديدة واجهته في رحلة انتشاره، ولكن الحاجة الماسّة للترجمة بسبب دخوله عدّة مجالات ساهمت في مواجهة كل هذه التحديات والعوائق بمختلف أشكالها؛ فكان هنالك فئة ممّن لا يشجّع الأعمال المترجمة، ومنهم من يرى بأنّها أداة ضرورية من أجل التفاعل والتواصل الثقافي بين الأمم والشعوب، سنتحدّث اليوم في هذا المقال عن الترجمة بين الواقع والتحدي.
الترجمة بين الواقع والتحدي
كانت الترجمة ولا زالت تعيش في تحديّات عديدة، وكان شكل هذه التحديات يختلف باختلاف الزمن والعصر؛ وهذا لأنّ كل عصر من العصور له ظروف وتحديثات وتغييرات خاصّة به، وتعيش الترجمة في الوقت الحالي أو في واقعنا أكبر التحديات في عصر العولمة أو عصر ثورة الاتصالات؛ وهذا لأنّ الترجمة أهم آلية من آليات التواصل المعرفي، وهذا أمر لا يمكن تجاهله.
وكان التحدي الذي واجه الترجمة في هذا العصر أنّ هذا العصر يمكن وصفه بأنّه ذو طاقة وقدرة كبيرة على التأثير بثقافات الشعوب؛ وهذا لأن التواصل في عصر العولمة أصبح كثيفاً، فوجب أن تكون الترجمة من ضمن تلك الأدوات السريعة، ومن المعروف أن فن الترجمة من أكثر الفنون التي تحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد.
كان فن الترجمة في الماضي يعاني من قيود الاستبداد والكثير من النقد، أمّا في وقتنا الحالي فالترجمة أصبحت لا تقتصر على التواصل المكتوب أو المقروء، بل امتد إلى التواصل المرئي والمسموع؛ وذلك من خلال وسائل الإعلام المختلفة، حتى أنّه دخل مجال السياحة والفنادق والمتاحف وغيرها الكثير، حتى إن الترجمة أصبحت أمنية لبعض البلدان بأن تكون أداة تسعى بها إلى الهيمنة على الآخر؛ وذلك من خلال صياغة العقول ومدى الإطار المعرفي لها.
وتعتبر هذه البلدان التي تسعى لأداة الترجمة بأنّها تساهم في ضمان أن تسود البلدان الأخرى ثقافياً، وأن تكون هي المصدر الأكبر للمعلومات حتى تصبح المرجع الرئيسي له، ومن أهم الأمثلة على ذلك هي الولايات المتحدّة الأمريكية التي تسعى لذلك من خلال شبكاتها الفضائية.
يخطر بذهن القارئ ما هو الموقف العربي أيضاً تجاه فن الترجمة، وما هو دورها في تشكيل الثقافة والمعارف المرجعية لها، والإجابة هو أن الترجمة أصبحت الوسيط العالمي الذي يرتبط الدول ببعضها من جهة التفاوض الثقافي فيما بينها، وخاصّةً أن العالم العربي أصبح لديه اهتمام كبير بالعالم الغربي.
كانت الترجمة في القديم تعتبر أداة للحصول على ثورة معرفية ومعلوماتية، ولكنّها كانت تعاني من الاحتلال والظلم والاستبداد، أمّا الآن فالترجمة أصبحت أداة للنهضة والإبداع الفكري والذاتي، وتحلّق هذه الأداة في جو من الحرية التامّة والديمقراطية، ولكن السؤال هل ستبقى الترجمة مستمتعة بهذا الجو من الحريّة؟ أم أن هنالك مخاوف مستقبلية؟
الإجابة هو أن مستقبل الترجمة من المتوقّع أنّه سيعاني من كثير من المخاوف، وتتمثّل هذه المخاوف في تحديات في كيفية التعبير عن النفس وكيفية التغيير الثقافي والتاريخي، وهذه الجوانب كلّها تعتمد على المتطلبّات الحضارية، ولكن من الممكن أن تتبدّد هذه المخاوف في حالة واحدة فقط وهي أن تعقد الدول العزم على نهج علمي محدّد، وعقد العزم على مواجهة كل التحديات التي ستواجه الترجمة كما واجهت التحديات السابقة؛ وبغير ذلك لن تخطو الأمم أي خطوة إلى الأمام.
ومن المعروف أن الترجمة كانت في القديم إنجاز وجهود فردية، أمّا في وقتنا الحاضر فتعتبر الترجمة نشاط جماعي وفن تخطيطي وليس عشوائي، ويتم تنفيذه ليس من خلال مترجمين فقط، بل أصبح إنجاز يتم من قبل مؤسّسات ومنظّمات تقوم بفعل الترجمة لهدف معيّن، لهذا السبب تعتبر نهضة الأمة أو البلد من نهضة ترجمتها.
لذلك يجب أن يبقى فن الترجمة مدعوم اجتماعياً واقتصادياً في كل مجالاتها، وأن يحشد لها كما تقوم البلدان بالحشد لبقية النشاطات المهمّة والتي تؤثّر في نهضتها، كذلك يجب أن تستمر في التخطيط لضمان استمرارها واستمرار تأثيرها في المستقبل المجهول، كذلك يجب أن تضمن أن يبقى فن الترجمة نشاط مشتركي ولا يقتصر فقط على النشاط المحلي.
إنّ الترجمة كانت وبقيت وستظلّ عرضة للكثير من التحديّات؛ وذلك بسبب الواقع غير الثابت والذي يتغيّر بتغيّر الظروف، ولكن الحفاظ على تقدير دور الترجمة الكبير، والسعي لمواجهة هذه التحديات سوف يساهم في استمرارها دائماً.